التاريخ بات أسيرا لتصدعات الجغرافيا.. تقول الوثائق البريطانية إن "ستالين" كان يدرك أن ضغط الأمريكيين لم يكن يستهدف مصالح اليهود السوفيات، ممن كانوا يحاولون توطينهم في القرم، بقدر ما كان يستهدف خدمة مصالح أمريكية جيوسياسية.
الأمر الذي تطلب من ستالين أكبر قدر من "الدهاء والمناورة".
الآن أقول إن المفهوم نفسه لدى الولايات المتحدة الأمريكية لم يتغير في التعامل مع الحرب الدائرة بين العدو الإسرائيلي والأشقاء الفلسطينيين في قطاع غزة. ففي كل تحركاتها تستهدف مصالحها الجيوسياسية في الشرق الأوسط، وفي القلب منها عدم إغفال مصالحها التاريخية مع إسرائيل.
طوفان الزمن عطل عقارب الساعة الأمريكية من التحرك صوب اتساع رقعة الحرب، التوقيت ليس في صالح حسابات واشنطن، التي باتت على بعد أمتار قليلة من الانتخابات الرئاسية، التي تأتي هذه المرة في ظل ظروف غاية في التعقيد الداخلي والتشابك الخارجي.
موفد البيت الأبيض قال بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي إنه "جاء إلى إسرائيل بصفته يهوديا هرب جده من القتل".
أنتوني بلينكن وزير الخارجية الأمريكي حمل حقيبته المسلحة بكل أوراق التفاوض، وذهب يوم الرابع من يناير/كانون الثاني الجاري في جولة هي الرابعة للمنطقة والخامسة لإسرائيل، بدأها من تركيا واليونان ثم الأردن وقطر والإمارات والسعودية وإسرائيل ومصر.
الجولة تتزامن مع طبعات جديدة من الاغتيالات بتوقيع حلفائه من حكومة اليمين الإسرائيلي المتطرفة.
في طريقه إلى مفاوضيه، حاول بلينكن أن يبحث عن مسوغاته كضامن لحكومة بنيامين نتنياهو التي خرجت من بيت الطاعة الأمريكي، تزاحمت الأفكار في رأس بلينكن.. مصيره مرتبط بمستقبل ساكن البيت الأبيض، ثمة عناوين عريضة لا يمكن إغفالها، بعضها يتعلق بزلازل تهدد الداخل الأمريكي، والبعض الآخر يتعلق بمستجدات متلاحقة قطعا ستؤثر على مساحة وجودها في الشرق الأوسط.
من يقرأ رسائل جولة بلينكن في العواصم التي زارها يتوقف أمام عدة ملاحظات؛ أولها أن هناك اتفاقاً "بخطوط عريضة" حول ضرورة تغيير "شكل الحرب" لتجنب الانتقادات الدولية، خاصة الرأي العام الأمريكي لسقوط عدد كبير من المدنيين، والعنوان الرئيسي لهذا الشكل الجديد من الحرب هو أن تتحول إسرائيل عن العمليات القتالية المكثفة إلى ما تسميه واشنطن "بالعمليات العسكرية الجراحية".
كما أن الولايات المتحدة -ومعها إسرائيل- تحرص على عقد "صفقة جديدة" مع حماس بعد فشل كل المحاولات لإطلاق سراح الرهائن بالقوة، فمحادثات بلينكن تهدف إلى صناعة زخم جديد حول ملف الأسرى والرهائن، سيما أن هذا الملف بات يشهد تعقيدات كبيرة.
أما القضية التي لاحظنا أنها حاضرة في كل أحاديث وزير الخارجية الأمريكي فهي بعنوان: اليوم التالي في غزة، فهو يسعى لتضييق الفجوة بين إسرائيل وأمريكا حول عدد من الموضوعات، أبرزها الزمن المتاح لإسرائيل لإنهاء حربها على قطاع غزة، والسماح بدخول مزيد من المساعدات لسكان القطاع، وهدف بلينكن من هذه الخطوات هو تهدئة الرأي العام الداخلي في الحزب الديمقراطي، وفي الولايات المتحدة الأمريكية بشكل عام، وتهدئة العاصفة السياسية التي تهاجم أمريكا في المنطقة العربية والشرق الأوسط.
لم تغفل حقيبة التفاوض التي يحملها بلينكن أن الولايات المتحدة ترى أن عنف المستوطنين يلعب دورا كبيرا في إنهاء أي فرص للتعايش بين الشعبين الفلسطيني والإسرائيلي في دولتين متجاورتين، كما تحدث بلينكن حول خلفيات القرار الأمريكي بمنع توريد 20 ألف بندقية أمريكية حتى لا تصل تلك البنادق إلى إسرائيل، وربما حاول بلينكن الحصول على ضمانات بعدم توزيع مثل تلك البنادق في الضفة الغربية، خاصة في ظل قرار واشنطن بعدم منح المستوطنين المتورطين في العنف، تأشيرات لدخول الأراضي الأمريكية.
الرسالة الأخرى تتعلق برغبة واشنطن في إقناع إسرائيل بمزيد من التنازلات، تشبه تنازلات ترسيم الحدود البحرية اللبنانية-الإسرائيلية، وتغازل واشنطن، إسرائيل في هذا الملف عبر التأكيد على أن صيغة ترسيم الحدود البرية مع لبنان هي "الصيغة الوحيدة الواقعية" لعودة 100 ألف إسرائيلي تركوا بيوتهم في شمال إسرائيل خوفاً من تكرار "حزب الله" لسيناريو حماس، مع سكان شمال إسرائيل.
من بين الأوراق التي حرص بلينكن على مناقشتها مع الجانب الإسرائيلي هي ورقة عدم استخدام ما يسمى "بالذخيرة الغبية"، وهي الذخيرة التي ليس بها أداة توجيه دقيقة، وتقوم الحسابات الأمريكية على أن توقف إسرائيل عن استخدام هذه الذخيرة سوف يقلل من عدد القتلى المدنيين، وفي نفس الوقت سوف يحسن صورة إسرائيل ومن خلفها أمريكا، أمام الرأي العام العالمي.
إذن تفاصيل جولة وزير الخارجية الأمريكي في الشرق الأوسط تعيد إلى الأذهان الحذر الكامل الذي تنبه له جوزيف ستالين من الحسابات الأمريكية، التي لم تتغير حتى هذه اللحظة.
* الكاتب: رئيس تحرير الأهرام العربي
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة