حرّك وزير الخارجية التركي هاكان فيدان بركة المياه الراكدة بشأن واقع ومستقبل التطبيع مع دمشق، عندما أعلن صراحة أن أنقرة تسعى "لمصالحة النظام والمعارضة ومنع عودة القتال بينهما".
ثمة أسباب تجعل تصريحات الوزير فيدان إشارة جدية على تحوّل في مقاربة أنقرة للمسألة السورية أمْلتها حقائق سياسية متعددة الوجوه، منها ما هو سوري، حكومة ومعارضة، ومنها ما هو أمريكي، ومنها ما هو مرتبط بالداخل التركي.
أمام هذا الموقف الأحدث للدبلوماسية التركية حيال سوريا، وفي ظل تجارب سابقة وتعثر محاولات التفاهم خلال عام مضى، يصبح التدقيق والتمحيص في مضمون الطرح التركي ضروريا من حيث التوقيت، ومن حيث القابلية للتطبيق، ومن حيث إمكانية مباركته من قبل واشنطن تحديدا.
"هاكان فيدان" أحد أكثر رجالات القيادة التركية اطلاعا وإلماماً بتفاصيل الملف السوري وتشعباته وتعقيداته الداخلية والإقليمية والدولية بحكم تربعه على رأس إدارة المخابرات التركية لسنوات، وبالتالي ثمة أسئلة تفرض نفسها حول الدوافع والأهداف التركية المرجوّة من هذا التوجه الراهن؛ هل يمكن اعتبار المقاربة التركية الجديدة بالون اختبار لواشنطن بعد أن تجاهلت هواجس حليفتها وقلقها ومطالبها بشأن وقف رعاية القوات الكردية المنتشرة على أجزاء واسعة من شمال وشمال شرق سوريا، والتي تعدها تهديدا للأمن القومي التركي؟، أما بالنسبة لدمشق وللمعارضة السورية؛ فما هي شروط الانخراط الفعلي والجاد لمصالحتهما برعاية تركية، وكيف ستكون مخرجات التصالح، في حال حصوله، وأي حظوظ لأنقرة باعتبارها اللاعب الوحيد المهيمن على المعارضة السورية بشقيها المدني والعسكري، ربما السؤال الأهم، هل نضجت الظروف لتحقيق هكذا مصالحة؟ ما مشروعية التكهن بأن المطروح لا يعدو عن أن يكون مناورة لتحريك الملف السوري خدمة لغايات تركية داخلية؟.
تركيا على أبواب انتخابات بلدية محلية لا تقل أهمية وتأثيرا على إدارة الرئيس أردوغان من الانتخابات البرلمانية، وقد يكون هذا الأمر أحد محرضات التوجه التركي المعلن، ذلك أنه في كل استحقاق داخلي تعود المسألة السورية إلى طاولة التداول والمساومات والمبارزات، كما تجلى ذلك بوضوح إبان الانتخابات الرئاسية قبل حوالي عام عندما استحوذ الملف السوري على المشهد الانتخابي برمته.
دمشق يمكن أن تتقبل الطرح التركي تحت عنوان "المصالحة مع المعارضة"، والأرجح أنها ستقرأه من زاويتين؛ الأولى أن أنقرة تجاوزت، أو على الأقل خففت تشددها بوجوب حل عقدة التهديد الكردي القادم من الأراضي السورية أولاً، وتراجعت عن سعيها الضاغط على الجانب السوري للقيام بذلك نيابة عنها، أي أن دمشق سترى في انتقال أنقرة إلى لعب دور الوسيط مع المعارضة السورية، مكسباً استراتيجيا وتكتيكيا، يضمن لها بقاء إمساكها بالورقة الكردية على طاولة التفاوض مع الجانب التركي، بعد أن أبدت صلابة في موقفها الرافض للمطالب التركية بالعمل وفق رغبتها لإنهاء هذا التهديد.
أما زاوية القراءة الثانية، كما تراها دمشق، فهي النافذة المريحة لها عندما تفرض أنقرة رؤيتها على المعارضة، بشقيها المسلح والمدني، وتجبرها على إنهاء الصراع مع الحكومة السورية بصرف النظر عن المسارات التي ستسلكها والمآلات التي ستنتهي إليها، وهذا يقلص أعباء سياسية وأمنية كبيرة عنها، وربما يكون مدخلا أكثر حيوية للتقارب، ذلك أن منع تجدد القتال بين الجيش السوري ومسلحي المعارضة، كما يقول الوزير فيدان، يفترض نزع سلاح المعارضة، أو دمجها في هياكل الجيش السوري.
ومن حيث النتيجة إذا ما تحقق ذلك، فإنه يعني طي صفحة الصراع المسلح، وعندها يمكن التأسيس لتفاهمات بين البلدين الجارين حول سبل معالجة موضوع التهديد الكردي للأمن القومي التركي، وتهديد وحدة وسيادة الأراضي السورية، لأن التفاهم وعودة العلاقات بينهما؛ يعني أن دمشق ستصبح مسؤولة عن لجم أي تهديد لتركيا ولأمنها القومي من الشمال السوري أياًّ كان مصدره.
مما لا شك فيه أن الملف السوري بات يشكل عبئا على تركيا بتفرعاته المختلفة، من اللاجئين داخل تركيا، إلى عشرات آلاف المسلحين في الشمال السوري، إلى وضع محافظة إدلب وسيطرة هيئة تحرير الشام على أجزاء واسعة منها وهي المحسوبة على تركيا، وهذا الواقع يقتضي الاعتراف بأن المصالحة بين الحكومة السورية والمعارضة لا يمكن لها أن تحصل دون دور تركي مباشر.
تركيا لا تمتلك مفاتيح مواجهة تهديد أمنها القومي بمفردها بسبب رعاية واشنطن المباشرة للقوى الكردية المنتشرة على مساحات واسعة قرب حدودها الجنوبية، ويبدو أن أنقرة أيقنت أن أنجع الطرق لدرء هذا الخطر يكمن في التفاهم مع دمشق على حلول لمجمل الملفات التي تشكل عوامل صدام وتباين بينهما.
هل تسمح الولايات المتحدة الأمريكية لأنقرة بترتيب أوراقها التصالحية مع دمشق؟.. لا شك في أن مبادرة فيدان تعكس، في جانب منها، حالة الإحباط التركية جراء مواقف واشنطن، حليفتها الأطلسية، ويبدو أن ثمة ضغوطا أمريكية تعرضت لها أنقرة لوقف استهداف المسلحين الأكراد ومواقعهم مؤخرا في سوريا وفي العراق، ولذلك التجاوب التركي ثمنٌ لا بد أن تقبضه أنقرة من واشنطن.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة