التعريف الشائع للدولة يأتي من مكوناتها: شعب وأرض وسلطة سياسية تحتكر الاستخدام الشرعي للقوة
ليست هذه المرة الأولى التي أستخدم في العنوان كلمتي "حبيبتي الدولة"، والحقيقة أنني لست صاحبها بل إنها من صياغة كاتب لبناني للأسف ضاع اسمه من الذاكرة، وكان هو الذي عنون بها مقالا إبان الحرب الأهلية اللبنانية (١٩٧٤- ١٩٩٠) بعد أن ضج به الضجر من تطاحن الفرق وحروب الجماعات، وبات السؤال مطروحا عما إذا كانت لا تزال هناك دولة في لبنان. كان العنوان نوعا من النداء التي وجدته مواتيا كلما اشتد التمزق في دولة عربية أو أخرى بسبب الطائفية أو القبلية أو المناطقية أو باختصار توجهات أيديولوجية شتي. فرغم أن فكرة الاستقلال وقيام الدولة العربية ذات سيادة كانت هي الأساس الذي قامت عليه فترة الكفاح العربي من أجل الاستقلال، فإنه لم يكن هناك تفكير كثير في ماهية هذه الدولة ومحتواها ومستقبلها.
ما جرى في المنطقة العربية قبل عقد من الزمان تقريبا لم ينته بعد، والمرجح أنه لن ينتهي في المستقبل القريب، والاختبار الحالي أمام النخب العربية يقوم على إجابة السؤال كيف يمكن حدوث التغيير مع الحفاظ على الدولة الوطنية؟ تلك هي المسألة!
ما حدث فعليا هو أن الدولة العربية واجهت خطرين ساعة ميلادها: خطرا جاء من فوقها بأنها ليست كافية لتحقيق السيادة العربية لأن ذلك لا يأتي إلا من أمة ممتدة من المحيط الأطلنطي إلى الخليج العربي. الدولة كانت عنوانا للتقسيم والتفتت، واستجابة لرغبات استعمارية لا تريد لدولة العرب وجودا.
وأحيانا فإن هذه الرغبة الفوقية كانت الدولة "الإسلامية" تعبيرا عن أمة أكثر اتساعا ممتدة من إندونيسيا إلى المغرب. في هذه النظرة كانت الدولة ضيقة الأفق، صغيرة، عاجزة عن إدراك القوة التي لا تأتي إلا من أمة فسيحة ومتسعة وإمبراطورية الشكل والمضمون.
والخطر الآخر جاء من تحتها، فكانت الدولة متسعة على أهلها، وإذا كانت الدولة قد قامت على حق تقرير المصير فإن كل طوائفها وقبائلها ومناطقها لها نفس الحق لأن أصحاب الأغلبية، سنة كانوا أو شيعة أو عربا أو أكرادا، هم الذين سوف يحلون محل الهيمنة الخارجية القديمة.
ولم يكن ذلك كل قصة الدولة العربية بل إنه في داخل كل معسكراتها السياسية كانت هناك معسكرات أخرى للإخوان والناصرية والماركسية والقومية، والمدنيين والعسكر، والتقدميين والمحافظين. لم تكن هذه مجرد أفكار وأيديولوجيات بل كانت جماعات مسلحة لها تواجد داخل الدولة، وأحيانا داخل جماعة التحرير التي لم تقم الدولة بعد.
التعريف الشائع للدولة يأتي من مكوناتها: شعب وأرض وسلطة سياسية تحتكر الاستخدام الشرعي للقوة. في الواقع فإن الشعب أضيفت له "هوية" من نوع ما تكونت من تاريخ ومصالح واعتماد متبادل، والأرض أصبحت مجال الحركة والتفاعل مع الخارج والداخل وباختصار صارت الجغرافيا واحدة من محددات الهوية؛ والسلطة السياسية صارت معضلة المعضلات فقد أدخلت فيها أشكالا من الديموقراطية، وأنواعا أخرى من السلطوية والأوتوقراطية.
هذه الخلطة في العالم العربي لم تكن على هذا الشكل من الاستقامة؛ وفيما عدا استثناءات قليلة فإن الدولة قامت على أنقاض حدود استعمارية من ناحية، وعلى بنية اقتصادية واجتماعية متخلفة فلم تكن هناك سوق ناضجة، ولا كانت هناك نخبة جاهزة للحكم. ولم تكن هناك صدفة أنه في لحظة قيام الدولة كان هناك مشروع للتوسع ويقابله مشروع للتقسيم.
الصومال استقل وعينه على "أوجادين" في إثيوبيا، وانتهى مقسما إلى دول لا يعترف بها أحد، ومستعمرا من جماعة إرهابية. سوريا بدأت وعينها على "سوريا الكبرى"، وانتهت إلى الدولة التي نعرفها الآن تبحث عن مناطق آمنة، وتسعى إلى بقاء أجزائها وأشلائها متكاملة.
الفلسطينيون فاقوا الجميع في المثال، فقد بدأوا بالسعي إلي دولة فلسطينية "على كامل التراب الفلسطيني"، وكان ذلك على مسيرة مكونة من حركات وطنية متعددة تدخل وتخرج من منظمة التحرير الفلسطينية كيفما تشاء؛ وانتهى الأمر الفلسطيني إلى كيانين أحدهما في غزة والآخر في الضفة الغربية، وتفاوضوا مع إسرائيل على ٢٢% من فلسطين. في كثير من الأحوال العربية فإن قيام الدولة على أساس من قيام السلطة السياسية بالاحتكار الشرعي للقوة بدت فكرة غريبة، وغير ممكنة، ولا توفي بمتطلبات المقاومة؛ ولم يكن ذلك فقط في فلسطين بل كان في لبنان الذي تساءل العالم عما إذا كان باقيا كدولة، خاصة بعد أن أصبح حزب الله "الثلث" المعطل للدولة كلها بما وهبه لنفسه من سلطة قرار الحرب والسلام.
"الربيع العربي" المزعوم هز "الدولة" العربية في الصميم؛ وفي عدد من الدول العربية جرى تعريض وجودها من الأصل للخطر. سوريا باتت تحت خطر التقسيم والتفتيت والتدخل الإقليمي من إيران وتركيا وإسرائيل. وحتى نهاية العقد الحالي لا نجحت الثورة في دمشق، ولا فاز الليبراليون الذين شكلوا ائتلافا أقرته الجامعة العربية لأن الائتلاف انقسم على نفسه شيعا وأحزابا، ولا استطاع حكم بشار الأسد أن يستعيد كامل التراب الوطني. في ليبيا انقسمت الدولة عمليا إلى قسمين في الشرق والغرب، ولكن ذلك لم يكن آخر التقسيمات، فما زالت المعركة مستمرة دون أن ينجح أحد في خلق صيغة تعيد الدولة إلى الوجود مرة أخري.
"الربيع العربي" المزعوم هز الدولة العربية في الصميم؛ ولكنه من ناحية أخرى تركها مع حكمة أنه لا يمكن العودة مرة أخرى إلى الأوضاع التي كانت قائمة قبل بداية عهد الثورات. وبينما كانت الدولة تتراجع أو تتحطم في دول، فإن دولا أخرى دخلت في مرحلة من الإصلاح العميق اقتصاديا واجتماعيا. هذه الدول بدأت في بناء مؤسسات جديدة، واتبعت سياسات لا تقوم بها إلا الدول الموحدة. نقطة البداية كانت التخلص من الشبكة السلفية والإرهابية التي ورثت أو اختطفت حركات الشباب الأولى في الميادين العربية.
وبعد ذلك جاءت خطوات جذرية قامت على الشمول للأقليات المهمشة من النساء إلى أتباع الديانات الأخرى؛ وأكثر من ذلك بدأت عمليات تنمية واسعة النطاق تستوعب المساحة الجغرافية للدولة. ظهر ذلك بشكل كبير في المغرب والأردن والسعودية ومصر ودولة الإمارات والكويت والبحرين وتونس. جماعة دول الإصلاح هذه باتت تعرف تقاليد ومؤسسات شائعة بين دول العالم الأخرى، ومن لم يكن يعرف الضرائب عرفها، ومن لم يكن يعرف التجنيد الإجباري فقد مارسه، ومن لم يكن يعرف الدولة الوطنية بما لها من "هوية" فقد عاشها، ومن لم يكن لديه سعر موحد لعملته فقد حقق ذلك.
عملية الإصلاح هذه وضعت الموجة التالية من "الربيع العربي" على مسار أكثر صحة، وظهر ذلك من التجربتين السودانية والجزائرية حيث نجحت السودان حتى الآن في الخروج من "الثورة" إلى الدولة دون انشقاقات داخلية إضافية، وبات تحقيق "السلام" والتنمية الاقتصادية أهدافا قومية. التجربة في الجزائر لم تكتمل بعد، ولكن الخيارات أمامها معروفة، وهي أن التغيير لا بد له أن يبقى في إطار الدولة الوطنية التي يكون الخروج عليها خروجا على التاريخ والجغرافيا وهوية الأمة. ما جرى في المنطقة العربية قبل عقد من الزمان تقريبا لم ينته بعد، والمرجح أنه لن ينتهي في المستقبل القريب، والاختبار الحالي أمام النخب العربية يقوم على إجابة السؤال كيف يمكن حدوث التغيير مع الحفاظ على الدولة الوطنية؟ تلك هي المسألة!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة