فقدت الأمور مقاييسها ومعاييرها، وصارت المعاني أكثر غموضا، والحوار بين الأطراف يفتقد إلى لغة التواصل
بعد أن تحول العمل السياسي في العالم العربي إلى حالة شعبوية، تحت تأثير انخراط الجماهير في انتفاضات الربيع العربي المشؤوم، وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي، التي جعلت كل من يستطيع القراءة والكتابة فاعلاً سياسياً غير محدود المجال أو الموضوع، يتدخل في كل الموضوعات من موقع الخبير، ويتهجم على من أفنى عمره في العمل السياسي أو في الدرس السياسي، بعد أن اختلط كل شيء في دنيا العرب بكل شيء، وفقدت الأمور مقاييسها ومعاييرها، وصارت المعاني أكثر غموضاً، والحوار بين الأطراف يفتقد إلى لغة التواصل.
ويكفي أن تسمع في اليمن السعيد في اليومين الماضيين عبر وسائل الإعلام من يقول "نريد تطهير منطقتنا من الشرعية حتى نعيد الشرعية"، وعندما يسأله المذيع "أنت تقاتل مع من؟ يقول: مع الشرعية، ثم يسأله: وتقاتل من؟ يقول نقاتل الشرعية.. حالة من الفوضى المفهومية تعبر عن ضياع الوعي، وموت السياسة في دنيا العرب.
الدول العربية التي مرت بها أعاصير الربيع العربي تحتاج إلى أن تعيد الاعتبار لرجال الدولة، وتتخلص في هذه المرحلة من رجال السياسة، والحال في السودان يبشر بأن هذا الطريق هو الذي سارت فيه حركة التغيير في السودان، بعد التخلص من نظام الإخوان الفاسد
جوهر هذه الفوضى أن واقع الحال في العديد من الدول العربية، خصوصاً تلك التي دخلت في صراعات ممتدة بتأثير التغييرات التي حدثت بعد 2011؛ يفتقد إلى وجود رجال الدولة ويمتلئ برجال السياسة، ورجل السياسة هو شخص ماهر في تحريك الجماهير، وحشدهم خلف حزبه أو جماعته أو طائفته، ويجيد النقد وإظهار العيوب، ويملك مهارات عالية في الخطابة والبلاغة والتهييج. في جوهره يعمل لتحقيق مصالح حزبه أو جماعته أو مصالحه الشخصية، أو كل هذه المصالح معاً، رجل السياسة يكون بارعا في المناورة، والتفاوض واللعب بـ"البيضة والحجر" كما يقول المثل الشعبي، فهو مناور عظيم، ولكن لا تحد مناوراته إلا مصالحه أو مصالح حزبه وجماعته، لذلك يتحالف مع المتناقضين حسب مصالحه، ولا يكترث كثيرا إلا بالنجاحات المؤقتة، ولا تعنية الخطط طويلة الأمد، فكل هدفه تحقيق النجاح الذي يحق المصالح التي يسعى إلى تحقيقها، حتى وإن قاد ذلك إلى مشاكل مستقبلية هائلة لدولته وشعبه.
ورجل الدولة يختلف كثيراً بل جذرياً عن رجل السياسة، رجل الدولة هو رجل السياسة الذي أتقن فنون السياسة، ووظفها لخدمة النفع والصالح العام، هو من يضع نصب عينيه مصالح دولته وأمنها القومي، ويعمل لشعبها.. كل شعبها، من كان ضده ومن كان معه، من ينتمي لدينه ومن يكفر به، من ينتمي لطائفته ومن يعاديها، ومن ينتمي لعرقه ومن يتعالى عليه.
رجل الدول يؤمن بالدولة والوطن والشعب كل الشعب، يسخر كل قدراته وإمكانياته لحماية مصالح دولته، والحفاظ على أمنها وتقدمها وازدهارها، رجل الدولة هو رجل السياسة مضافاً إليه كل القيم العليا للدولة، وكل المثل العظمى للسياسة، وكل المعايير المعتبرة للقانون.
الأمم تنهض برجال الدولة، والأحزاب تنجح برجال السياسة، والحكومات تحتاج إلى الاثنين معاً، خصوصاً في الدول التي تتبع نظام المنافسة الحزبية، والتعددية الديمقراطية، ولكن الحاجة أكثر لرجال الدولة، والاستدامة السياسية والتنموية تتوقف على رجال الدولة، لذلك نجد في الديمقراطيات الغربية عملية تبادل الأدوار مذهلة، ففي فترات الانتخابات يظهر رجل السياسة، وعندما يصل إلى سدة الحكم يصبح رجل دولة، أما في العديد من الدول العربية خصوصاً التي تشهد صراعات أهلية متنوعة لا نجد إلا رجال السياسة ويغيب عنها رجال الدولة.
يتكون رجل الدولة ويتشكل وعيه في عملية معقدة ومتنوعة، في الغالب تقوم بهذا المؤسسات العريقة في الدول التي تبدأ بالتعليم الفكري العميق، الذي يغرس مفاهيم الدولة، والأمن القومي في الوعي، ثم تقوم بيوت الخبرة think-tanks بالتدريب والتكوين، وبعدها يقوم الحزب بالتنشئة السياسية والتدريب على المهارات، وتتولى التجربة في المؤسسات السياسية المتنوعة عملية صقل كل ذلك في إطار مفاهيم الأمن القومي والهوية الحضارية.
أما رجل السياسة فيكون له مسار مختلف، يسلك طريقاً جماهيرياً، بعيداً عن مؤسسات الدولة، يبدأ بالاتحادات الطلابية، ثم النقابات، وينخرط في الجماعات المعارضة ثم الأحزاب، ويظل هكذا خارج مؤسسات الدولة حتى يصل إلى السلطة، فيمارسها لمصلحة حزبية أو طائفية أو شخصية، ويفتقد كثيرا مهارات وقدرات رجل الدولة.
لذلك نجد الفشل الذريع الذي شهدته الدول التي تخلصت من النظم القديمة الفاسدة في موجة الربيع العربي المشؤوم، بعد أن وصل للسلطة رجال السياسة، خصوصاً من تنظيم الإخوان الفاشل، في مصر وتونس وليبيا واليمن.. كان الفشل الذريع في انتظارهم، وكذلك الحال مع الأحزاب الدينية التي قادت العراق بعد الغزو الأمريكي 2003، جميع هذه الحالات لم تشهد رجال دولة، بل قادها رجال سياسة، وكان أكثرها فشلا تجربة الإخوان في مصر، حيث تم التخلص من رجال الدولة في كل المواقع، وجيء بعناصر الإخوان الذين لم يؤمنوا يوما بمفهوم الدولة، وكل تكوينهم المعرفي والسياسي يتجاوز مفهوم الدين، ويطمح لمفهوم الخلافة وأستاذية العالم، لذلك تخبط رجال السياسة الإخوان في قيادة الدولة لأنه لم يكن بينهم رجل دولة واحد.
الدول العربية التي مرت بها أعاصير الربيع العربي تحتاج إلى أن تعيد الاعتبار لرجال الدولة، وتتخلص في هذه المرحلة من رجال السياسة، والحال في السودان يبشر أن هذا الطريق هو الذي سارت فيه حركة التغيير في السودان، بعد التخلص من نظام الإخوان الفاسد، فقد أدركت قوى التغيير أنهم في حاجة إلى رجال دولة وليس إلى رجال سياسة.
نقلاً عن "الأهرام"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة