الربيع الأول والثاني؟!
المخرج من الأزمة الثورية لدولتي الجزائر والسودان يمكن أن يطلق عليه "المشروع الجسر" الذي يعبر بين الفوضى والاستقرار
"الربيع العربي" تعبير أطلقته الصحافة الغربية على "الحراك السياسي" الذي جرى في عدد من الدول العربية في العقد الحالي (2010-2019) من القرن الحادي والعشرين.
كان هذا الإطلاق تقليدا لما سمي بربيع "براغ" عندما جرى التمرد على السلطة السوفيتية في تشيكوسلوفاكيا عام 1968 وانتهى نهاية دامية بدخول القوات السوفيتية إلى العاصمة التشيكية، وفي العالم العربي فإن 3 موجات من التغيير جرت في المنطقة.
التخلص من رؤساء لم يكن أحد يعتقد بإمكانية خروجهم من السلطة، وبعد ذلك أتت سيطرة جماعة الإخوان الإرهابية وجماعات دينية راديكالية أخرى على العملية السياسية؛ ثم في النهاية جاءت بداية التخلص من الإخوان وحلفائهم كما حدث في مصر، أو تم تقليص قوتهم لصالح قوى أخرى كما حدث في تونس والأردن وليبيا واليمن والكويت بسبب فشلهم في إقناع الرأي العام بقدرتهم على حكم بلادهم
لقد كشفت القصة الثورية عن مشاهد جديدة لم يكن ممكنا لأحد أن يتنبأ بها وسط العواطف الساخنة والرومانسية للثوار في ميدان التحرير في القاهرة، وميادين أخرى مماثلة في عواصم عربية أخرى، كان الثمن ببساطة مرتفعا بينما كان العائد قليلا.
وبعد ما يقرب من عقد من الثورات فإن الجيوش الوطنية عادت لكي تقود، وبات الناس يبحثون عن الاستقرار وليس التغيير، ولكن يبدو أن ما كسر من الصعب عودته إلى ما كان عليه، ومع ذلك فإنه مع شهر ديسمبر/كانون الأول 2018 تجدد ذات الحراك السياسي في السودان، وما أن جاء موعد التجديد الرئاسي للرئيس عبدالعزيز بوتفليقة حتى انفجر الموقف في الجزائر هي الأخرى في موجة ثانية من الربيع، وباتت الأسئلة تدور حول ما جرى تعلمه من الربيع الأول المزعوم، الذي لم تنتج عنه نسمة ولا نمت فيه زهرة، وإنما كان مظلة كبيرة للعنف والحرب الأهلية والإرهاب والانغلاق الديني والتعصب والكراهية.
ومع ذلك فإن تكرار ما جرى مرة أخرى طرح بشدة الأسئلة حول كيفية حدوث التغيير السلمي في السلطة، فلم يكن أحد يعتبر أن بقاء الرؤساء بالنظم الجمهورية في السلطة لعقود طويلة يعد من الفضائل السياسية، وبالتأكيد فإن الفضيلة السياسية لم تنطبق لا على الرئيس عمر البشير ولا الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة.
معضلة التغيير الكبرى أن الدول والشعوب لا تتوقف حياتها أثناء "العملية الثورية"، كما أن قدرا كبيرا من الجماهير لا يريد للحياة أن تتوقف، بينما "الثوار" يعتبرون أسلحة "المظاهرات" و"الاعتصام" والتهديد بالعصيان المدني هي وسائلها ليس فقط لإسقاط الرئيس وهو ما حدث بالفعل، وإنما للإطاحة بدور القوات المسلحة في السلطة، وهي التي لديها مسؤولية حماية البلاد من أعداء الخارج، والانقسام والتفكك في الداخل.
هذه المعضلة غيرت المعادلة الأصلية للتغيير من كونها إحداث نقلة نوعية في تاريخ البلاد نحو التقدم وإدراك الحريات العامة وحسب شعاراتها "بناء الديمقراطية"، ولكن كل ذلك لا يمكن حدوثه وإدراكه إلا بقدر كبير من الاستقرار والأمن والأمان الذي يعيد المجتمع من الميادين إلى المزارع والمصانع والخدمات، وهو ما يحتاج إلى آلية انتقالية لإدراك هذه الأهداف تقوم على إجراء الانتخابات العامة.
المشكلة في ذلك أن ما تسفر عنه الانتخابات يحتاج إلى حماية القوات المسلحة، وعلى الرغم من أن الجماهير العربية في معظمها تكفل الاحترام لقواتها المسلحة لكن ما يطلق عليه القوى الثورية في الربيع الأول والثاني باتت تعتبر الجيش جزءا من السلطة الغابرة، ومن ثم باتت تسعى إلى إقصائه في وقت تعاني فيه البلاد من حروب أهلية، كما هو الحال في دارفور وكوردوفان بالسودان، أو من ظل الإرهاب وذكريات "العشرية السوداء" في الجزائر.
د.عمرو الشوبكي -عالم السياسة المصري وعضو البرلمان السابق والخبير في مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية- انطلق مما اعتبره دروس الربيع الأول، وهو أن أحد آفاتها كانت أن الثوار لم يبحثوا عن "الشخصية الجسر" التي تعبر بالدولة بين النظام القديم والنظام البازغ، بل ذهب أكثر من ذلك إلى أن هذه الشخصية يمكنها أن تعبئ الجماعة الإصلاحية في النظام الذاهب، لكي تعقد تحالفا مع العناصر الثورية للدفع في اتجاه عملية إصلاحية تستقطب الجماهير المراقبة (أو حزب الكنبة كما وصف في مصر).
وفي رأي الشبكي، أن الالتفاف حول شخصية عمرو موسى وزير الخارجية المصري والأمين العام لجامعة الدول العربية الأسبق أثناء الانتخابات الرئاسية لعام 2012 كان يمكن أن يجنب مصر تجربة الإخوان، والحاجة إلى ثورة أخرى، ويعطيها الفرصة لعملية إصلاحية واسعة.
السؤال أمام هذا التصور.. لماذا لم يحدث ذلك في أي من ثورات الربيع الأول ولا يحتمل أن تحدث في الربيع الثاني؟ والإجابة هي أن القوى الثورية مقسمة بل مفتتة، وفي ميدان التحرير كان عدد الجماعات السياسية 216 جماعة، وذلك غير الأحزاب والجماعات المعترف بها أو ذات طبيعة رسمية، وفي مثل هذا العدد يصعب الاتفاق على أي شيء، لا على "الشخصية الجسر" ولا على ما هو أهم من "المشروع الجسر"، فعلى الرغم من أن الجميع كانوا يتفقون على زوال النظام القائم فإن أحدا لم يدر بخلده ماذا سوف يكون عليه النظام القادم؟
التاريخ الأوروبي ربما يعطينا دروسا في هذا الصدد؛ حيث واجهت أوروبا ثورتين متزامنتين مع نهاية القرن 18 والقرن 19، هما الثورة الفرنسية والثورة الصناعية والتكنولوجية.
وكانت الثورة الأولى هي التي استهدفت عمدا ومباشرة تحطيم الهياكل والنظم السياسية للدول الأوروبية بأفكارها عن "الحرية" و"الإخاء" و"المساواة، وهي أفكار حملها معه نابليون بونابرت حينما توسع شرقا حتى وصل إلى موسكو على الأرض الروسية، ولكن الثورة الثانية كانت هي التي أصلت عملية تغيير أوروبا ومن بعدها العالم اقتصاديا واجتماعيا ثم سياسيا.
كلا الثورتين على أي الأحوال كانتا وراء تكوين العالم المعاصر كما نعرفه الآن، حتى بعد أن تمت هزيمة نابليون في عام 1815، وفي أعقاب الهزيمة قامت 4 من القوى المحافظة، روسيا والنمسا وبروسيا وبريطانيا، عملية لإدارة التغيير والحفاظ على توازن القوى في القارة الأوروبية لقرابة 100 عام حتى نشبت الحرب العالمية الأولى في 1914، وفيما بعد أضيفت فرنسا إلى القائمة، وشكلت القوى الخمس ما أصبح معروفا باسم "منظومة أوروبا Concert of Europe" أو "كونجرس فيينا" لإدارة التغيير ومواجهة إمكانية نشوب ثورة أخرى من ناحية، واستثمار آثار الثورة الصناعية في تحقيق التغييرات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية اللازمة من ناحية أخرى.
وعلى الرغم من أن معظم المشابهات التاريخية غير محكمة، وتحتوي على الكثير من الاختلافات الناجمة عن اختلاف البيئة والظرف التاريخي، إلا أن مفهوم "منظومة أوروبا" يمكن أن يفيد تحليل الحالة في الشرق الأوسط؛ حيث تعددت أشكال الثورات منذ نشوب ثورة الخميني في 1979، والانتفاضة الفلسطينية في عام 1987 وعام2000، حتى الأشكال المختلفة من "الربيع العربي" منذ 2010 وحتى 2019.
كل هذه "الثورات" صاحبتها الثورة الصناعية والتكنولوجية الثالثة في مجالات الاتصالات والمعلومات التي اجتاحت العالم خلال الربع الأخير من القرن العشرين، مسببة عولمة الأفكار والقيم وأنماط الحياة، ولم يكن الشرق الأوسط بعيدا عن هذه التطورات، فمع التغيرات الديموغرافية الهائلة بما فيها من قفزات سكانية، وارتفاع نسبة الشباب فيها، فإن الإقليم أصبح واقعا تحت ضغط انفجار الدول، والقيم، وتوازن القوى.
هذه الضغوط قادت إلى انفجار الدول والمجتمعات التي اشتعلت فيها الحروب الأهلية والصراعات الإقليمية والتدخلات الدولية، كما حدث بالفعل في الصومال وليبيا واليمن وسوريا والعراق، وواكب ذلك كله وجود الفاعلين من غير الدول أمثال الإخوان والقاعدة و"داعش" وما تفرع منها من جماعات أشعلت الكراهية الدينية والطائفية.
تفاصيل كل ذلك معلومة عما حدث خلال هذا العقد في المنطقة العربية والشرق أوسطية، ولكن نهاية العقد تشهد أيضا ليس فقط عودة التماسك إلى عدد من الدول العربية كانت البداية فيها ثورة يونيو/حزيران المصرية عام 2013، التي حققت أولى الهزائم الكبرى لجماعة الإخوان الإرهابية، ثم نجاح العراق في هزيمة ما أطلق عليه مجازاً "دولة الخلافة"، وعودة الروح إلى سوريا مرة أخرى كفاعل دولي، ونجاح تونس في إرساء الطريق إلى نظام ديمقراطي، وتفعيل العمليات السياسية في الأردن وتونس والكويت.
صحيح أن نتائج الربيع الأول القاسية لا تزال لها مشاهدها في اليمن وليبيا وحتى شمال غرب سوريا، إلا أن المشاهد أيضا أن مشروعات الإصلاح الكبرى والجذرية أصبحت الآن ذائعة في الكثير من الدول العربية، مثل مصر والسعودية والمغرب والأردن وتونس والكويت والبحرين.
ولعل ذلك كله ربما يكون هاديا إلى المخرج من الأزمة الثورية لدولتي الربيع الثاني الجزائر والسودان، فما تحتاج إليه الدولتان ليس "الشخصية الجسر" وإنما "المشروع الجسر"، الذي يعبر بين الثورة والدولة، وبين الفوضى والاستقرار، فالمدهش في دول الربيع الثاني كما كان في دول الربيع الأول أن من يريدون التغيير لم يكن لديهم مشروع من أي نوع، وإنما مجموعة من الشعارات التي تمتد من اليمين إلى اليسار، وكان ذلك مقصودا لأنه لم يتبلور لديهم مشروع واضح للإصلاح من ناحية، كما كان الخوف قائما من أن مشروع الإصلاح لن يكون بالضرورة محافظا على وحدة المتحالفين إلى الثورة والإطاحة بالنظام القديم.
والأكثر من ذلك كله أهمية أن المشاريع الإصلاحية الكبرى والجذرية تحتاج إلى قرارات صعبة وقاسية، وهذا ما لم يكن الثوار على استعداد لمصارحة الجماهير به.