مداخل الأصوليات لسرقة الثورات
ترى الأصوليات المتطرفة والعنيفة -دون اختلاف- دائما في الثورات فرصة لها للتمدد وإعادة التموقع والانتشار والتوحش.
" دين الله خط أحمر" هكذا خاطب الداعية السروري عبدالحي يوسف جماهيره والمجلس العسكري في السودان يوم 19 أبريل/نيسان الماضي، إذ يرى في مطالبات الثورة المدنية خطرا على هوية السودان ودينه وشريعته، يقودها مرتدون وعلمانيون تغريبيون، هذا القاموس الانغلاقي هو الخطاب نفسه الذي استخدمته الأصوليات منذ ثورة الخميني عام 1979 حتى الآن في إطار سرقتها للثورات، سواء شاركوا فيها منذ البداية أو لم يشاركوا أصلا.
الأصوليات والثورة ومنطق الفرصة
ترى الأصوليات المتطرفة والعنيفة -دون اختلاف- دائما في الثورات فرصة لها للتمدد وإعادة التموقع والانتشار والتوحش الذي يؤدي للتمكين، وهكذا أرهقت تنظيماتها المختلفة مسار هذه الثورات وحرفتها إرهابا وحروبا أهلية هنا وهناك، وكذلك تنظر بازدراء لمفاهيم الوطن والمواطنة.
وترى التنمية والتقدم والاستقرار مفاهيم متأخرة عن مفاهيمها الأيديولوجية وشعاراتها الصراعية مع الداخل والخارج على السواء.
قفز وسرقة الأصوليات للثورات، يحمل مخاطر عميقة على المستويات السياسية والاجتماعية، ففضلا عن أنه يصنف كل المختلفين معها في خانة التغريب والخيانة للوطن والهوية ويضعهم تحت طائلة التكفير الديني قد يقسم المجتمع ويفجر كل نزوعات التعصب والعنف فيه، وصوغ مجتمعه وتاريخه.
تطرف عقائدي
هذا القاموس التكفيري والتخويني امتد منذ تحريم الخميني كلمة الديمقراطية لأنها غربية منذ نجاح ثورته، وصولا إلى ظهور أبي بكر البغدادي الأخير في 29 أبريل الماضي، والذي أشار فيه إلى أحداث السودان والجزائر، وأن الناس عليهم أن يسلكوا سبيل الجهاد الذي يدعو إليه!! وألا يستبدلوا طاغوتا بطاغوت آخر.
وفي فقه القاعدة وداعش يطلق حكم الطاغوت على كل مَن يؤمن بالديمقراطية وحقوق الإنسان ويقبل بالفكرة المدنية والإنسانية والمنظمات الدولية!!
بنفس منطق البغدادي تكلم عبدالحي يوسف، كجزء من حرص منظري وزعامات التطرف العنيف دائما على مصادرة طموحات الشعوب واختياراتهم، فهم لا يريدون إلا ما تريد هذه التنظيمات وزعاماتها، فهي نفس الذهنية والعقلية الاستعلائية التي تهدد كل الآخرين والمختلفين داخليا وخارجيا.
كانت استراتيجية القاعدة وداعش والتطرف العنيف الانقلاب والتوظيف للثورات من ضعف النظام أو سقوطه أو سياقات الفوضى التي تزامنها، وهكذا كانت فرص حضورها العنيف في كل من سوريا وليبيا بالخصوص، حيث أقامت إماراتها التي سقطت بصعوبة نتيجة للتدخل الدولي ضدها.
وقد أصدرت القاعدة وداعش عددا من الرسائل والمطويات في استراتيجية التعامل مع حالة الثورات حملت هذه التصورات.
بينما كان موقف ما يطلق عليه مجازا "الإسلام السياسي" بأقنعته المدنية وقواه المنظمة والمليشياوية -وراءها- محاولة الاندماج في بنية السلطة ثم ابتلاعها فيما بعد، سواء شارك في هذه الثورة كما كان الحال في سوريا التي استنفرتها وبررت لها المليشيات الطائفية التي نشطت في قمع الثورة المدنية وسلميتها، أو في ليبيا التي ولدت ثورتها معسكرة منذ البداية، أو لم يشارك إلا متأخرا كما كان في مصر وتونس.
ولكن رغم ما تبديه في البداية من خطاب مدني توافقي وغير تسلطي لا تلبث بعد أن تستتب لها الأمور أن تستخدم خطابا استعلائيا وإقصائيا معاديا للاختلاف ومكرّسا لاستبدادها.
النموذج الخميني والإخواني وتكرار التجربة
اتضحت استراتيجية الخميني منذ مارس/آذار سنة 1980، حيث استشعر الديمقراطيون خيبات الأمل المنتظرة عندما أعلن الخميني لا تستخدموا هذا المصطلح إنها مفهوم غربي في إشارة منه إلى مصطلح الديمقراطية.
كما تم إغلاق عشرات الصحف والمجلات المعارضة لفكرة الحكومة الخمينية، ولم يمر 6 أشهر على ثورة الخميني، حتى بدأ قمع المعارضة التي شاركت في الثورة واضطهاد كبار رموزها منهم المرجع آية الله محمد كاظم شريعتمداري، الذي وضع تحت الإقامة الجبرية رغم أنه أحد أصحاب الفضل على الخميني نفسه حين أصدر بيانا باعتبار الخميني مجتهدا بعد اعتقاله فرفع عنه حكم الإعدام.
وفي آذار/مارس 1980، أغلق نظام الخميني الجامعات التي اعتبرت معاقل لليسار مدة سنتين لتنقيتها من معارضي النظام الديني. وفي تموز/يوليو من العام نفسه فصلت الدولة الآلاف من المعلمين والضباط باعتبارهم "متغربين" أكثر مما يجب.
هذا ما فعله الخميني بعد ركوبه الثورة من إقصاء شركائه فيها، وهو ما حاول فعله تنظيم الإخوان الإرهابي في مصر من ركوبهم المتأخر قطار الثورة رغم اعتذارهم الرفضي عن المشاركة فيها في بيان 22 يناير/كانون الثاني 2011، ونكثهم وعودهم التوافقية والمطمئنة بعد فترة، وأنهم لن يترشحوا للرئاسة وأنهم لن يسيطروا على البرلمان وغير ذلك، ومزايدتهم على الآخرين بكل شكل وبتوظيف المتشددين القريبين منهم أو المختلفين عنهم الذين ركبوا القطار كذلك، حتى نجحوا في السيطرة على السلطة تماما عامي 2012 و2013 محاولين استنساخ النموذج الإيراني في مصر، بل استعانوا ببعض خبرائه ودارسيه في إقصاء كل مَن شاركوا في الثورة، كما فعل الخميني، والتهديد باستخدام القوة وخطاب التخوين والتكفير الوطني والسياسي والديني ضد المعارضين، الذين انتفضوا في وجهه في النهاية وسقط نظام الإخوان وحكم المرشد من جديد.
على الطريقة نفسها، يحاول تيار نصرة الشريعة وغيره من التيارات الإرهابية قطع الطريق وسرقة المعالم في طريق الثورة السودانية ومحاولة تشتيتها وإعاقة طموحها، وهو أمر دأبت عليه هذه التنظيمات منذ عام 2011، رغم عدم مشاركتها فيها في البداية أو مشاركتها الحذرة بعد نجاحها، لتمثل رهابا للداخل والخارج على السواء، وتكون نذير شؤم بالأسوأ بعد السيئ، وفق منطق الفرصة المتاحة والغلبة الممكنة لعبا بكل عواطف الناس الدينية والوجدانية هنا، أو الطائفية هناك، التي تركبها وتستهدف بها المصلحة التنظيمية والسلطة وليس غير.
وقد سخر بعض المراقبين من مظاهرات السروريين في السودان بقيادة عبدالحي يوسف يوم 17 مايو/أيار 2019 وهتافاتها ضد إسرائيل والولايات المتحدة، في حرف ذرائعي لمطالب التغيير والحراك المدني التي يدعو إليها، وضد الاتفاق المدني الذي تم في 15 مايو/أيار واستمرار الحوار بين ممثل القوى المدنية والمجلس العسكري الحاكم.
والحقيقة أن مظاهرات السروريين عملت على استنفار العواطف الشعبوية والدينية. وهو ما نظن أن الشعب السوداني والفاعلين فيها يعلمون غاياته وأهدافه وما يمثله من ثورة مضادة لثورتهم، التي قامت ضد نظام أصولي وشمولي.