استراتيجيات داعش بعد انهيار جغرافية التنظيم
إسقاط الدول الوطنية محور مشروع داعش، لذا فقد وضع عددا من الاستراتيجيات تعتمد على تفكيك الجغرافيا السياسية للدول التي لا يزال موجودا بها
فرضت حالة الانهيار الجغرافي لـ"داعش" بعد معركة الباغوز السورية على التنظيم الإرهابي عددا من الحقائق دفعته إلى البدء في تبني استراتيجيات "هجينة" تجمع ما بين العمليات العسكرية التقليدية وحروب العصابات القائمة على الاستنزاف دون الدخول في مواجهات مباشرة قد تستنزف من قواه المنهارة بعد هزيمته من قوى التحالف الدولي.
وبما أن إسقاط الدول الوطنية هو محور مشروع "الخلافة" المزعوم الذي يؤمن به داعش، فقد وضع عددا من الاستراتيجيات تعتمد على تفكيك الجغرافيا السياسية للدول التي لا يزال موجودا بها، مستغلاً استمرار الأبعاد المجتمعية والدينية والسياسية التي لا تزال تشكل رافداً للتطرف، الذي يستفيد منه ويخترق من خلاله النسيج الوطني لتلك الدول.
هذا ويتمثل المنحى الاستراتيجي الجديد لداعش في الاستيلاء المؤقت على المدن واستنزاف جيوش جغرافيته القديمة وتنشيط خلاياه النائمة والسعي لبيعات جديدة خارج مناطق نفوذه التقليدية.
وهو ما يدفعنا إلى إعادة التساؤل حول قدرات التنظيم في إعادة وجوده والانطلاق منه للتوسع الجغرافي الذى يحوله مع الوقت إلى جيوبوليتك "خادم" لمواقع انتشار متنوعة داخل جغرافيته القديمة، مضيفاً إليها جغرافيا جديدة تتسم بالمرونة والتجدد.
عقب الانهيارات المتتالية لمعاقل ومدن داعش في سوريا والعراق وليبيا، بداية من الموصل العراقية ومرورا بسرت الليبية ونهاية بالباغوز السورية؛ استحدث التنظيم عدداً من الاستراتيجيات الهجينة والآليات التقليدية التي يتصور أنها ستمكنه من الحفاظ على بقائه، والتي يمكن تحديد أبرزها فيما يلي:
أولاً: استراتيجية إسقاط المدن مؤقتاً
تقوم هذه الاستراتيجية على توجيه ضربات مفاجئة لقوات تأمين المدن والبلدات وتحييد قوتها بما يساعد الدواعش في التحرك داخل المدينة بحرية وتحقيق أهدافها من الهجوم خلال ساعات قليلة، ثم الانسحاب مع تجنب الدخول في معركة حاسمة مع القوات الداعمة لتجنب وقوع خسائر في صفوفها.
وحسب "جريدة النبأ" الأسبوعية الصادرة عن التنظيم فإن تكتيك الهجوم والإسقاط يمكن أن يختلف ويتغير عندما تنشأ عقبات غير متوقعة لخطة الانسحاب، فيمكن أن تكون المجموعات التي تهاجم أولاً هي أول من ينسحب، أو أن المجموعات التي تشن أعمق توغل في المنطقة قد تكون أول من ينسحب.
وتعتمد استراتيجية داعش على تأمين مخارج للهروب، وأن تكون لدى العناصر المهاجمة ملاجئ آمنة للمجموعات التي لا يمكن أن تنسحب أو الجماعات التي تضم جرحى لا يمكن إجلاؤهم بسهولة مع ضرورة الخضوع التام للأمير قائد الحملة تحت مبدأ "السمع والطاعة".
كما تضع الاستراتيجية في اعتبارها إمكانية حدوث تغييرات عند الهجوم على المدينة أو البلدة بسبب الأحداث العرضية التي تواجه المهاجمين، أو الأخطاء التي تحدث أثناء التنفيذ، أو المفاجآت التي يكون سببها نقص المعلومات الاستخباراتية، لذلك يوضع في الاعتبار وجود عقبات تمنع تنفيذ خطة الانسحاب كما وضعت في المكان، لذا فإن الاستراتيجية تمنح الأمراء صلاحيات أوسع للعمل، وفقا للمعلومات والقدرات المتاحة، وتنفيذ أفضل ما لديهم من إجراءات لتأمين الانسحاب بطريقة مناسبة.
وتعد عملية الهجوم الداعشية على بلدة الفقهاء بمحافظة الجفرة الليبية نموذجاً عملياً على الإسقاط المؤقت للمدن، حيث قامت عناصر التنظيم بالهجوم عليها عند منتصف ليل 8 أبريل/نيسان الماضي، وتمشيطها حتى صباح اليوم التالي بحثا عن قيادات بالجيش الوطني الليبي والدوائر التابعة لها بعد أن قتلوا عددا من المسؤولين بها على رأسهم رئيس المجلس البلدي وقائد الحرس البلدي، إضافة إلى قتل وأسر عناصر من قوات الجيش الليبي ثم انسحبوا منها.
وبالنظر إلى هذه الاستراتيجية نجد أنها محاولة بائسة من التنظيم لإعادة تدوير تكتيكات قتالية سبق واستخدمها في العراق قبل إعلان خلافته المزعومة، كما أن عمليات انسحاب مسلحيه دائما ما تتأثر بالخسائر الكبيرة الناجمة عن المواجهة مع التعزيزات العسكرية القادمة للمدن والبلدات عقب عمليات الهجوم.
ثانياً: استراتيجية استنزاف الجيوش
كشف التسجيل المرئي لزعيم تنظيم داعش الإرهابي أبوبكر البغدادي، الذي تم نشره في 29 أبريل/نيسان الماضي، عن دعوة قديمة جديدة لاستنزاف الجيوش التي ينشط التنظيم داخل حدود أراضيها.
وهذا الأمر يقوم به داعش حاليا من خلال استراتيجية تعتمد على تنويع عملياته على الأرض في مناطق انتشاره وتواجده تقوم بها مجموعات صغيرة يتراوح أعدادها ما بين 3 أفراد حتى 10 أفراد، وتتنوع ما بين مجموعات تنفيذ ورصد والتحام وتأمين واحتياط.
وتتنوع عمليات الاستنزاف ما بين إطلاق نار وقنص، وزرع عبوات ناسفة ومتفجرات في مناطق مرور القوات العسكرية، ومهاجمة واستهداف كمائن، والهجوم على مواقع ومجمعات عسكرية بهجمات انتحارية.
ويهدف التنظيم من عملياته تلك إلى تحقيق أكبر قدر من الخسائر في قوات الجيوش بداية من تخريب مصادر ووسائل إمداده وخطوط اتصال قطاعاته، إضافة إلى إحداث أكبر خسائر في معداته وقواته الراجلة التي يستفاد منها كقوات دعم ومساندة لوجستية لعمليات مكافحة الإرهاب، ونهاية بضرب الروح المعنوية للأفراد المقاتلين، لإضعاف ثقتهم بقيادتهم السياسية والعسكرية.
وتعد ما سماها التنظيم "غزوة الثأر لولاية الشام" التي أطلقها في بداية مارس/آذار الماضي، نموذجاً لتركيز داعش على استنزاف الجيوش والقوات العسكرية التي ينشط التنظيم داخل حدود أراضيها، ردا على خسارته لآخر معاقله في سوريا، والمتمثل ببلدة الباغوز ومحيطها بريف دير الزور الشرقي، حيث توالت بعدها الأخبار على "حسابات" موالية للتنظيم عن قيام عناصر تابعين له بتنفيذ سلسلة من العمليات في سوريا والعراق وليبيا وسيناء المصرية.
وبالنظر إلى هذه الاستراتيجية يمكن القول إنها قد تحقق بعض النجاحات قصيرة المدى من خلال تكبيد القوات العسكرية بعض الخسائر المادية والبشرية، لكنها على المدى البعيد تكشف عن الملاذات الآمنة التي تتواجد بها هذه المجموعات الداعشية، ما يسهل عملية توجيه الضربات الاستباقية لها، وهو الأمر الذي يحدث خسائر فادحة بين عناصرها ويحول دون حدوث عمليات مستقبلية لها.
ثالثاً: استراتيجية خلايا التماسيح
وهو مصطلح أطلقته أجهزة الاستخبارات البريطانية على خلايا داعش التي تواجدت في أوروبا بعد هزيمته في سوريا والعراق، ولا يزالون يحملون أفكاره وأيديولوجيته الدموية، وينشطون في شكل مفارز جائلة تتبع التنظيم ومستعدة لتنفذ أوامره، ويعمل التنظيم على استخدامهم في إطار استراتيجية محددة للثأر.
وتدرس الاستخبارات البريطانية خطط هذه الخلايا عقب الكشف عن معلومات تفيد بأن قائد الجماعة الإرهابية التي نفذت الهجوم الدامي في سريلانكا في أبريل/نيسان 2019، قد عمل بناء على أوامر تلقاها من إرهابيين بريطانيين متواجدين في سوريا.
رابعاً: استراتيجية استقطاب الـ"بيعات" الجديدة
رغم تراجع حالة الزخم التي أحدثها داعش فإنه لا يزال يتمتع بالقدرة على استقطاب الـ"بيعات" الجديدة، وهو ما كشف عنه تسجيل البغدادي بإعلانه عن ولايتي "مالي" و"بوركينافاسو" رغم العمليات العسكرية الواسعة ضد التنظيم في الدولتين.
كما أعلن التنظيم عن إقامة "ولاية الهند" في إقليم كشمير المتنازع عليه بين الهند وباكستان، وذلك بعد أيام من اشتباكات وقعت بين إرهابيين من "داعش" وقوات الأمن في الإقليم، قُتل خلالها عدد من الجنود الهنود.
وتعد هذه المرة الأولى التي يعلن فيها التنظيم وجود موطئ قد له في الإقليم، بعد أن سبق وأعلن عن نيته التوسع في كشمير في عام 2016، وتشكيل جماعة جديدة تحت اسم داعش في جامو وكشمير.
هذه البيعات تكشف عن سعي تنظيم داعش إعادة تخليق وجوده في أماكن جديدة وغير تقليدية من خلال عملية لامركزية تعتمد على جذب كافة المجموعات المتطرفة الصغيرة حول العالم إليه واستخدامها لتنفيذ أيديولوجيته الدموية مع تحقيق استقلالية تنظيمية لها تمكنه من إعادة وجوده الجغرافي بدون الإمساك بالأرض.
وتشكل هذه الاستراتيجية تحولا نوعيا جديدا في أفكار التنظيم الذي حرص منذ إعلان خلافته المزعومة في عام 2014 على البيعة الصريحة من قبل أي مجموعة محلية حتى يتمايز بها عن التنظيمات الإرهابية المنافسة له وعلى رأسها "القاعدة"، وهو الأمر الذي يمنح داعش مرونة كبيرة في الوصول إلى مناطق مختلفة من العالم تموج بالصراعات الإثنية والطائفية والمظلومية.
ورغم أن هذه الاستراتيجية تعيد داعش إلى صدارة أي عمل إرهابي في العالم فإنها تفقده سيطرته "المركزية" التي طالما سعى إلى ترسيخها في ولاياته.
يضاف إلى ذلك إمكانية ظهور انشقاقات وصراعات تصدع حالة التماسك داخل العديد من ولاياته التي تتكبد خسائر مادية وبشرية ولوجستية من قبل القوى العسكرية والأمنية التي تتواجد على أراضيها.
ومن خلال قراءة استراتيجيات تنظيم داعش الإرهابي بعد انحسار نفوذه الجغرافي يمكن الوصول إلى الاستنتاجات التالية:
- لا يزال تنظيم داعش يستفيد من الأوضاع المجتمعية والدينية والسياسية المتدهورة في العديد من الدول، التي تشكل رافداً لتنفيذ استراتيجيته التي تهدف إلى تفكيك الجغرافيا السياسية لها وإعادة تموضعه بها، وهو الأمر الذي يستلزم تعاونا دوليا لوضع استراتيجية شاملة لمكافحة الإرهاب.
- الخبرات القتالية التي اكتسبها داعش على مدار السنوات الماضية ساعدته على إعادة تدوير تكتيكات قتالية هجينة مكنته من الظهور مجددا وبأشكال مختلفة.
استمرار التنظيم الإرهابي في إعادة إنتاج وجوده بطرق متنوعة يشكل خطورة هائلة على السلم الإنساني بشكل عام، الأمر الذي يوسع خطورة المعركة مع داعش ويحولها إلى مواجهة مفتوحة.