في الظروف الملموسة لبلداننا العربية القائمة اليوم لن يكون بديل الدولة سوى العصبيات التقليدية التي أنشئت الدولة لتجاوزها
حين يدور الحديث عن المفاضلة بين الدولة، مهما قيل في نقائصها وترددها في أن تكون دولة عصرية بحق ودولة مواطنة بحق، وبين «اللادولة»، أي بلوغ حال تتفكك فيه هذه الدولة وتتلاشى لتنشأ حالة من الفراغ تشغلها القبائل والعشائر والطوائف وأئمة المذاهب، أي حال ما قبل الدولة، فعلينا أن ننحاز إلى وجود الدولة، بصفتها، رغم كل ما يعتريها من مثالب، خطوة تقدمية مهمة إلى الأمام والعصرنة والتحديث مقارنة بما قبلها.
ضعف الدولة أو عجزها أو استبدادها لا يعالَج بتحطيم ما أقامته من مؤسسات ومصادرة دورها الوطني الشامل المفترض، وإنما بالعمل على النهوض بالمجتمع المدني ليكون رقيباً وشريكاً.
يتعين ألا نُفتن بالشعارات البرّاقة التي تسوق بدائل الدولة، بحجة أن الدولة استبدادية، وننساق إلى الوهم بأن الكيانات التقليدية الموازية أو التي تريد أن تجعل من نفسها بديلاً للدولة هي أكثر تعبيراً عن هموم وتطلعات المواطنين، لأن هذه الكيانات ردة إلى الوراء، وتحطيم للمنجز المؤسساتي الذي تمّ مهما كانت ضآلته وهشاشته. فالمطلوب هو توسيع وترسيخ هذا الطابع المؤسساتي وتقويته، لا الارتداد عنه.
لا يجوز، في أي حال، أن يفهم من هذا القول إنه تبرير للدولة في المطلق، أو دفاع عن استبدادها، فنحن ننطلق من الوعي بالحاجة إلى قهر هذا الاستبداد ببناء المؤسسات المدنية القادرة على كسر هذا الاستبداد، واستبداله بحياة سياسية ديمقراطية تحترم التعددية وتضمن المواطنة المتساوية، وهو أمر لا يتحقق بين عشية وضحاها، وإنما يلزمه عمل طويل ودؤوب. إنها ليست مهمة جيل بعينه إنما عدة أجيال.
لم تكن الحروب الأهلية في الصومال ولبنان قد اندلعت بعد، ولم يكن العراق قد احتلّ، ولم تكن قد انفجرت دوامات العنف المدمر في سوريا وليبيا واليمن وغيرها حين وضع صاحب العقل الفذ المفكر المغربي عبدالله العروي كتابه المهم عن «مفهوم الدولة»، ولكنه امتلك قدرة استشرافية تحذر من المآلات المدمرة للكيانات الوطنية إن لم يجر النظر بصورة تاريخانية للدولة بوصفها سيرورة باتجاه عقلنة المجتمع.
وفي ذلك الوقت المبكر لم ينف العروي عن الدولة القطرية العربية أوجهاً كثيرة من عدم عقلانيتها ومن قصور القائمين عليها، لكنه أكد أن هذه الدولة محمولة أو مضطرة حتى لو لم ترد على أن تسير في اتجاه العقلنة ولو بتردد ولو بخطى وئيدة.
ضعف الدولة أو عجزها أو استبدادها لا يعالج بتحطيم ما أقامته من مؤسسات ومصادرة دورها الوطني الشامل المفترض، وإنما بالعمل على النهوض بالمجتمع المدني ليكون رقيباً وشريكاً. في الظروف الملموسة لبلداننا العربية القائمة اليوم لن يكون بديل الدولة سوى العصبيات التقليدية التي أنشئت الدولة لتجاوزها: القبيلة، الطائفة.
نقلاً عن "الخليج"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة