غاية ما نحاول لفت الأنظار إليه أن الاستناد إلى عوامل اقتصادية "محضة" لن يساعد كثيرا على فهم ما يجري من تطورات اقتصادية فعلية الآن.
جاءت الأنباء الاقتصادية خلال الأيام القليلة الماضية مليئة بعناوين وعبارات مثل "النفط يرتفع بنحو 3% بفعل آمال الاستقرار الاقتصادي"، أو "الذهب مستقر بفعل آمال توقف رفع الفائدة الأمريكية وصعود الأسهم"، أو "فتحت مؤشرات البورصة الأمريكية دون تغير يذكر يوم الثلاثاء، مع انحسار الدعم من الآمال بشأن مزيد من التحفيز الصيني للاقتصاد المتباطئ". وتشير كل هذه الأنباء إلى عامل من العوامل المهمة التي تشكل حركة الاقتصادات خاصة في الأوقات التي تطغى فيها حالة من اللايقين أو الضبابية بشأن تطورات المستقبل ألا وهو "الحالة النفسية" للمتعاملين في الأسواق أو ما يطلق عليه العامل "السلوكي". ففي ظل هذه الأوضاع قد يصبح لحالة التفاؤل والتشاؤم أو ما أطلقنا عليه في الأسبوع الماضي حالة "التشاؤل" تأثيرها الكبير على التطورات الاقتصادية الفعلية التي تجري على أرض الواقع، بأكثر مما للعوامل الاقتصادية "المحضة" من تأثير.
غاية ما نحاول لفت الأنظار إليه هو أن الاستناد إلى عوامل اقتصادية "محضة" لن يساعد كثيرا على فهم ما يجري من تطورات اقتصادية فعلية الآن. ونظن أن دور العوامل غير الاقتصادية، وبالذات العوامل النفسية سيزداد خلال الفترة الراهنة
وكنا قد أشرنا قبل أكثر من عام بمناسبة فوز الاقتصادي الأمريكي ريتشارد ثالر بجائزة نوبل في الاقتصاد، وهو واحد من رواد المدرسة السلوكية في علم الاقتصاد، إلى أن هناك اتجاهين عريضين داخل هذا العلم. الاتجاه الأول يمكن أن نطلق عليه اتجاه الاقتصاد "النقي أو الخالص"، وهو الاتجاه الذي يرتكن إلى العوامل الاقتصادية وحدها لتقديم تفسير لما يجري من أحداث، كما أنه يلجأ إلى العناصر الاقتصادية الخالصة في تقديم توقعاته لما يمكن أن تشهده حركة الأسواق والاقتصادات المختلفة في المستقبل القريب أو البعيد. أي أن هذا الاتجاه "النقي" يستند إلى عوامل اقتصادية محضة تفترض عادة انضباط وحيادية آلية السوق وفي ظل شروط محددة ومفترضة لهذه السوق. ومن بين هذه الافتراضات تلك التي تتعلق بانضباط السلوك الاقتصادي أو ما يسمى "الرشادة" الاقتصادية للأفراد سواء أكانوا مستثمرين أم مستهلكين، والأكثر أهمية هو افتراض استمرار هذه "الرشادة" في توجيه سلوك البشر دائما وفي ظل الظروف والأحوال كافة.
أما الاتجاه الثاني في علم الاقتصاد فيذهب إلى أن هذا العلم لا يمكن أن يتحول تماما إلى علم "منضبط"، لسبب رئيسي هو أن "مادته" التي يشتغل عليها هي "البشر" وليس الطبيعة. وعند الحديث عن البشر لا بد من الأخذ في الاعتبار الأهواء، والأمزجة، والهفوات، وخطأ التقديرات الكارثية أحيانا.. إلخ التي تعبر عن سلوك البشر المتقلب الذي لا يثبت على حال، والذي يتأثر قطعا بما يحيط بهم من ظروف من حيث التفاؤل أو التشاؤم أو غيرها من الحالات.
ضمن هذا الاتجاه العريض هناك العديد من المدارس الاقتصادية ومن بينها "المدرسة السلوكية"، وهي المدرسة التي تحاول إدماج علم النفس في تحليل عملية صنع القرار التي تكمن وراء أي نتيجة اقتصادية نراها، مثل العوامل التي تدفع أحد المستهلكين إلى استهلاك منتج معين بدلا من استهلاك منتج آخر، أو العوامل التي تدفع أحد المستثمرين للاستثمار في سهم أو شركة معينة أو سلعة معينة من بين آلاف البدائل المتعددة المتاحة أمامه في الأسواق. فعلى خلاف علم الاقتصاد "النقي" يسمح الاقتصاد السلوكي بالسلوك "غير الرشيد" ويحاول فهم العوامل التي أدت إلى ما نراه سلوكا غير رشيد. ويلخص ريتشارد ثالر الحائز على نوبل الاقتصاد عام 2017 في مقال له أهمية الاقتصاد السلوكي بالقول "إن واحدا من دروس الأزمة المالية العالمية التي وقعت عام 2008 هو ضرورة وضع نهاية للافتراض القائل بأن سلوك الأفراد هو دائما سلوك رشيد تماما، وأن أسعار السوق تعكس دائما القيم الحقيقية للسلع..". ويمضي بالقول "إن هناك تأثيرا مهما لإدراك أن البشر لا يتصرفون دائما بشكل رشيد على عملية صنع السياسة العامة، ومن هنا تأتي أهمية دور علوم مثل الاقتصاد السلوكي وعلم النفس الاجتماعي. فهذه العلوم تمكننا من تطوير مداخل جديدة في صنع السياسة، بناء على دلائل واقعية قائمة على تقصي السلوك الفعلي للبشر".
تقليد عريق
وعلى خلاف ما قد يظنه البعض من أن المدرسة السلوكية في الاقتصاد هي مدرسة جديدة، نجد أن التقليد الذي يذهب إلى محاولة دمج الأبعاد غير الاقتصادية عند دراسة التطورات والأحداث الاقتصادية يعود إلى تاريخ بعيد يمتد إلى نشأة علم الاقتصاد ذاته على يد آدم سميث واقتصاديي القرن التاسع عشر العظام، حيث كان علم الاقتصاد يعرف بأنه علم "الاقتصاد السياسي"، ولم يكتف هؤلاء بدمج السياسة فقط، بل امتدت كتاباتهم لإدماج أبعاد أخرى اجتماعية ونفسية عند تناول ظواهر علم الاقتصاد بالدراسة، أو عند تصديهم لشرح وتحليل الأحداث الاقتصادية الجارية أو التاريخية.
ونجد كذلك سلفا واضحا للمدرسة السلوكية فيما يعرف بالمدرسة المؤسسية في أمريكا، وهي مدرسة حاولت إدماج الأبعاد غير الاقتصادية في دراسة السلوك الاقتصادي. وكان لهذه المدرسة العديد من التجديدات النظرية بناء على دراسة الواقع. فقد ابتكر مثلا الاقتصادي الأمريكي ثيورشتين فيبلن رائد هذه المدرسة مفهوم "الاستهلاك التفاخري" أو "الاستهلاك الاستعراضي" على سبيل المثال، وأتى ذلك في ظل حث فيبلن للاقتصاديين على محاولة تقصي الأسباب والآثار الاجتماعية والثقافية وراء ما يقع من تغيرات وتطورات اقتصادية، وعدم الاقتصار على تقصي الجوانب الاقتصادية وحدها. وقد ورد مفهوم "الاستهلاك التفاخري" في أهم أثر تركه فيبلن وهو كتابه "نظرية الطبقة المترفة"، حيث كان يعني به تحديدا الاستهلاك الذي لا يتم بغرض إشباع الحاجات، بل يتم بهدف تأكيد المكانة الاجتماعية أو الإشارة إلى القدرات المادية لمن يقومون بهذا الاستهلاك، أي ما يعد في ظل علم الاقتصاد "النقي" سلوكا غير رشيد بامتياز. وقد سار على درب فيبلن خصوصا بعد الحرب العالمية الثانية اقتصاديون أمريكيون كبار مثل جون كينيث جاليبرث وروبرت هيلبرونر، حيث عرضوا في دراساتهم للعديد من العوامل غير الاقتصادية التي تؤثر في/وتتأثر بالاقتصاد.
وغاية ما نحاول لفت الأنظار إليه هو أن الاستناد إلى عوامل اقتصادية "محضة" لن يساعد كثيرا على فهم ما يجري من تطورات اقتصادية فعلية الآن. ونظن أن دور العوامل غير الاقتصادية وبالذات العوامل النفسية سيزداد خلال الفترة الراهنة التي لا نرى لها اتجاها واضحا أو يصفها البعض بـ"الضبابية". فهل نحن على أعتاب المرور بحالة من الركود أو التباطؤ الاقتصادي الشديد؟ أم أننا على العكس ربما نشهد موجة توسع أو حتى نموا ولو محدودا خلال العام الحالي. مثل هذه الأسئلة لن تستند إجاباتها فقط إلى التطورات الاقتصادية "النقية" وحدها، طالما أن هذه التطورات ذاتها يشكلها بشر تنعكس حالتهم النفسية على ما يميلون إلى تصديقه والاقتناع به والتصرف بناء عليه، وهو ما يؤثر بدوره على قراراتهم في مختلف الأسواق وينتهي من ثم إلى تشكيل الواقع الاقتصادي برُمّتِه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة