هناك معادلة مستقرة للعلاقة بين هؤلاء الثلاثة، تعرفها الدولة التي سارت على طريق الاستقرار والتنمية والفعالية السياسية، هذه المعادلة تقوم على حدود واضحة لدور كل منهم، وعلاقة راسخة بينهم، بحيث لا يتم تبادل أو تداخل أو تصارع الوظائف والأدوار.
ففي الولايات المتحدة مثلا ينظر الجميع للجامعات وما فيها من مراكز بحوث، ولمراكز البحوث المستقلة، ولبيوت الخبرة Think Tanks على أنها جميعا مصدر الأفكار التي تنهض بالمجتمع وكل فعالياته الاقتصادية والثقافية والصحية….الخ.
فعادة تخرج الفكرة من عالم أو فريق من العلماء والباحثين سواء أكانوا متخصصين في العلوم الطبيعية مثل الطب، أو العلوم الاجتماعية مثل الاقتصاد والسياسة، أو الإنسانيات مثل الأدب والفلسفة والفنون، تخرج الفكرة الجديدة من واحد من هؤلاء؛ فتلتقطها الصحافة والإعلام المرئي والمسموع، وتتناولها بالتحليل والنقاش والتمحيص والنقد لفترة من الزمن تحقق المعرفة المجتمعية بها، حيث عادة تتناول هذه الموضوعات البرامج الحوارية المحترمة في المحطات التلفزيونية الجادة.
وقد يمتد هذا الحوار حول فكرة واحدة من أسابيع إلى شهور؛ بحيث يعيش المجتمع كله هذه الحالة من الحوار الجاد، فإذا ما استقرت الفكرة دخلت إلى حلقة السياسة، وأصبحت من القضايا التي يتم تبنيها سياسيا من أحد الفاعلين السياسيين، ثم تتحول إلى سياسة عامة Public Policy في مجالها، أو إلى مشروع عملي، أي تنزل إلى الواقع التطبيقي في المجتمع.
وهنا تتضح بجلاء طبيعة العلاقة بين العالم والصحفي والسياسي، كل منهم له مجال للحركة، ومنطقة للتميِّز والإبداع، ودور يؤديه لخدمة المجتمع وبناء الحضارة، وكل منهم يحترم دوره ووظيفته ويؤديهما بسعادة، فواحد ينتج الأفكار والثاني يصنعها ويغلفها ويسوقها، والثالث يطبقها في أرض الواقع ويحقق الفائدة منها، ولا يستطيع المجتمع الاستغناء عن أي منهم، ولا يستطيع أي منهم أن يقوم بدور أخيه لأن لكل دور طبيعة ومتطلبات لا تتوفر في الآخر.
ولننظر في عالمنا العربي …ماذا سنجد؟…للأسف الشديد سنجد معادلة أخرى هي سمك ولبن وتمر هندي، سنجد تداخلاً وتصارعاً وتبادلاً للأدوار من أشخاص معظمهم ليسوا مؤهلين لأداء أي من هذه الأدوار الثلاثة, ولا ينتمي الواحد منهم إلى أي منها، فقط وجد نفسه في وظيفة تتعلق بأحد هذه الأدوار دون أن يملك مؤهلاتها، ولم يصل إليها بعلم ولا خبرة ولا مهارة، وإنما وصلت الوظيفة إليه بحكم القرابة أو النسب أو المحسوبية أو الرشوة أو أشياء أخرى، هؤلاء جميعاً في المواقع الثلاثة لا يعرفون طبيعة الدور في كل موقع ولا متطلباته ولا حدوده.
ليس هذا فحسب بل المأساة الكبرى أن الصنف الأول، وهو العالم، انقرض ولم يعد له وجود، فبنهاية الجيل الذي بدأ تعليمه في الثلاثينيات والأربعينات من القرن الماضي، بعد هذا الجيل ظهر جيل من الشرَّاح والنَقَلَةِ والتلاميذ الذين يرتزقون من تراث أساتذتهم، أما الجيل الثالث الموجود على الساحة اليوم فلا يعرف معنى العلم، ولا منهجه ولا أخلاقياته، العلم بالنسبة لهذا الجيل “سبوبة” مثل سمسرة العقارات أو تسمين العجول أو بوتيك للملابس الداخلية، العلم بالنسبة لهم وظيفة لأكل العيش، ومن هنا أصبحنا نعيش مع طرفين من المعادلة هما الصحفي والسياسي.
ولأن الساحة مفتوحة أمام الصحفي والسياسي فقد أصبحت علاقتهما في حالة صراع وابتزاز دائم، الصحفي يملك مساحة من الصحفية، أو فترة من زمن بث الفضائيات، يوظفها لبناء القوة وتضخيمها أمام السياسي، ويبتز السياسي طوال الوقت بتأليب الجماهير ضده، مستفيدا من أن الجماهير لها عقول الببغاوات وطبيعة القطيع، خصوصا في المجتمعات التي تسود فيها الأمية بصورها المختلفة، ولذلك أصبح الصحفي يملك معظم أوراق اللعبة، فقد استطاع أيضاً أن يحل محل العالم، أو انقلب العالم إلى صحفي، وعدد أساتذة الجامعات الذين تحولوا إلى مذيعين ومذيعات كبير، بما يؤكد أن العمل كمذيع أو مقدم برنامج هو أرقى وأفضل من العمل أستاذاً في الجامعة.
والأمثلة على هذه الحالة يصعب حصرها؛ فهي حاضرة في كل ما تمر به الكثير من الدول العربية، خصوصا منذ يناير ٢٠١١ حيث انفلت عقال كل شيء، ولعبت وسائل الإعلام الدور الأساسي في ظل غياب الدولة ومؤسساتها، أو تراجعها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة