منذ أن وصلتني نسخة ورقية من الرواية الأولى للصديق الكاتب فاخر غزلان بعنوان "ما زلتُ حيّاً في مكان ما"، وأنا أحاول أن أسرق من زمني المزدحم بضع ساعات تطير بي إلى عالم أدبي صادق.
نسج خيوطه الروائيُ الجديد بإبرة جرّاح عايشنا وإياه الأحداث السورية وحكايات الألم والفقدان والنزوح واللجوء والموت.
وأن تقتبس عنواناً لقصيدة الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش وتضعه عنواناً لرواية تعايش الأزمة السورية بكل أبعادها الإنسانية، فهذا يعني تناغماً أدبياً رفيع المستوى بين قضيتين محوريتين في كل تجلياتهما الفكرية والسياسية والاجتماعية والأيديولوجية نحو اللامتناهي في فلسفة الألم البشري، وعبر تجسيد روائي صادق لحيوات الشخصيات وتداخلها في أزمنة وأمكنة كثيرة.
ابتداءً من دمشق وصولاً إلى سالزبورغ مروراً بالقاهرة وروما، تفقد مجدولين والدتها في وطنها سوريا، ووالدها في مصر، فيما يصلها خبر رحيل (نهاية مفتوحة غير معلومة) شقيقها وحبيبها في آن معاً في النمسا.. تبدو الأنامل وهي تقلّب صفحات الرواية وصولاً إلى آخر صفحة منها أمام توازن رهيب في سرد الأحداث وعرض الآراء من المسألة السورية دون أي تشنج سياسي أو عسكري، بل بمنظور إنساني واضح تجاه قصة أسرة سورية فقدت كل شيء بسبب الحرب الدائرة هناك منذ نحو عقد من الزمان.
مجدولين الوحيدة في منفاها تعاني الأمرّين في رحلة لجوئها من مدينة الياسمين لتصل إلى أرض الكنانة وتتعرف على الشاب الفلسطيني أمل، الذي يساعدها للهرب سوياً إلى أوروبا عبر قوارب الهجرة غير الشرعية في البحر المتوسط، ومن هنا ثمة اندماج، إن صح القول، بين سوريا وفلسطين نحو حدود لا نهائية من التفاصيل التي امتدت على مساحة 308 صفحات من القطع المتوسط في ثمانية وثلاثين فقرة مريحة للقراءة، إلا أنها عانت من بعض الحشو والتشعب.
وسط "الزمكان" الروائي يبحث فاخر غزلان بين سطور روايته عن الحب في زمن الحرب، إنها قصة الحب بين مجدولين وعلي التي غيّرت مجرى الأحداث وتسلسلها، وتشابه المصائر، والبراعة في وصف مشاهد الحرب والموت، والتأريخ المفصل للعديد من الأحداث والقضايا، كالحرب العالمية الثانية والحرب السودانية، وغيرها من الأمكنة البطلة التي حفرت عميقاً في شخصية مجدولين، وكأن قدرها أن تأخذ من كل دولة، بقيت فيها فترة من الزمن، ما يضيف إلى شخصيتها وحياتها المقلوبة رأساً على عقب.
الرواية الصادرة عن "دار الرواية العربية للنشر والتوزيع" في العاصمة الأردنية عمان، تحمل في أبعادها الفلسفية نفساً سيكولوجياً لا يتوقف عند الصراع بين الإنسان وأخيه الإنسان، ولا بين نفس بشرية وأخرى، بقدر ما تقترب من سيكولوجية الفقد والخذلان التي تتعرض لها مجدولين في معركة الحياة التي لن تكون الأخيرة في سيرورة الألم الذي يعتصرنا من مكان إلى آخر، كالهروب من موت إلى موت آخر ولكن بشكل مختلف.
تُخبرنا رواية "ما زلتُ حيّاً في مكان ما" أن الإنسانية مهددة تحت وابل العنف، وأن الحياة مملوءة بالصراعات، وأن السعادة مرهونة بالآخرين والعلاقة الجيدة معهم.. الرواية كومة من المقاربات الفلسفية والأفكار والأدوات المرافقة للوعي والأخلاقيات في عالمنا الذي يضج بالحروب.. هي حكاية العقل البشري المأسور بالمعضلات والفوضى الضاربة والتناقض المأساوي في الأفعال والتصرفات.. هي نحيب سوريا والعالم.. هي الحساسية والتمايز والانشغالات الفكرية بأي حال من الأحوال الأدبية والفراغ الذي لا يمكن تعبئته إلا بتعزيز منظومة القيم الأخلاقية، هذه القيم التي أنقذت مجدولين في حياتها وربما كانت محظوظة في حق الحياة فقط، ولكن".. يوماً تلو الآخر تغدو أرواحنا الهشة بعدهم حطاماً ونغترب أكثر لنسقط في هوة الرمادي.. وكأنهم أخذوا حصتهم من سعادتنا، لملموا كل ضحكاتنا ومضوا ليتركونا للخيبة والنسيان..". ص130.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة