مدارس البيعة.. حكاية التعليم الإخواني من حسن البنا إلى باريس
كيف صنعت جماعة الإخوان ولاءها من داخل الفصول؟

تحوّل التعليم بالمدارس إلى أحد أبرز المداخل التي اعتمدتها جماعة الإخوان لتثبيت حضورها في المجتمعات الغربية، مستندةً إلى خطاب تربوي يتخذ من التعليم وسيلة لتعزيز الولاء وبناء مجتمعات موازية داخل أوروبا.
في كتابه "أولويات الحركة الإسلامية في المرحلة القادمة"، قدّم يوسف القرضاوي تصورًا عمليًا لهذا المشروع، مشددًا على أن المسلمين في أوروبا، وأستراليا، وأمريكا الشمالية لم يعودوا مجرد عابري سبيل، بل مقيمون لفترات طويلة، وهو ما يفرض – حسب رأيه – وجود قيادة مركزية تتولى مهمة الحفاظ على "الهوية" ومنع الذوبان داخل محيط ثقافي مغاير.
من هذا المنطلق، دعا القرضاوي إلى تأسيس بنى مجتمعية متكاملة داخل الغرب، تضم مجالس محلية، ومساجد، ومدارس، ونوادٍ اجتماعية. وهو ما التقطته الجماعة ونفذته فعليًا، خاصة في أوروبا، حيث تُتيح القوانين مساحة واسعة من حرية التنظيم والعمل الأهلي والتربوي.
لكن تلك المدارس التي رفعت شعار التعليم الديني والثقافي سرعان ما أثارت قلق السلطات في عدد من الدول الأوروبية، خاصة بعد تنامي مؤشرات تربوية تشير إلى تمرير مفاهيم تتعارض مع القيم الجمهورية وحقوق الإنسان.
فرنسا، التي تخوض صراعًا مفتوحًا مع ما تصفه بـ"الانفصالية الإسلاموية"، أصدرت تقريرًا رسميًا يحذر من تغلغل جماعة الإخوان داخل النظام التعليمي الفرنسي. التقرير أشار بوضوح إلى أن الجماعة لا تكتفي بنشر أفكارها عبر خطب أو كتب، بل تُدخلها إلى مناهج التعليم وأنشطة المدارس، مستفيدة من غطاء قانوني ومؤسسي.
وجاء في التقرير أن بعض تلك المدارس تحمل أسماء مطمئنة وتقدّم واجهات مهذبة، لكنها تزرع داخل الأجيال مفاهيم موازية للمنظومة القيمية الفرنسية، بعيدة عن مبادئ الجمهورية ومفاهيم المواطنة وحقوق الإنسان.
ويرى معدو التقرير أن ما يجري لا يقتصر على أفراد أو معلمين بعينهم، بل يتعلق بشبكات منظمة، تستغل البيئة القانونية والتعليمية لتثبيت مشروع فكري منفصل عن السياق الوطني. وهو ما تعتبره السلطات الفرنسية تحديًا مباشرًا أمام جهود الاندماج ومكافحة التطرّف.
الرؤية التأسيسية لحسن البنا
في بداياتها الأولى، كانت جماعة الإخوان المسلمين تدرك أن السيطرة على المنابر والمساجد وحدها لا تكفي. ومنذ تأسيسها عام 1928، كان حسن البنا يتعامل مع التعليم كالمحراب الثاني، بل قدّمه أحيانًا على الخطابة والوعظ.
حين كتب البنا رسالته "في التعليم الديني" عام 1929، لم يكن يُنظّر لتعليم تقليدي يضيف بعض الآيات إلى المقررات الرسمية، بل كان يضع أساسًا لفكرٍ مغاير، يُعيد تشكيل العملية التعليمية نفسها: من هو المعلم؟ ما هو محتوى الدرس؟ من يحق له أن يُدرّس؟ بل ما غاية التعلم؟
لم تكن الإجابة تدور حول المعرفة، بل حول الإعداد. إعداد الفرد المؤمن، لا المواطن الفعّال. ولهذا، بدأ مبكرًا في إنشاء "مدارس الجمعية"، والتي كانت في حقيقتها مدارس دعوية تزرع فكر الجماعة من الطفولة.
وفي وثيقة "مجلة المنار"، وضع البنا منظوره الأوضح: التعليم ينبغي أن يتجه إلى "إنشاء الفرد المسلم، ثم البيت المسلم، ثم الشعب المسلم، ثم الحكومة المسلمة"، ليكون بعد ذلك "إعادة الخلافة، وأستاذية العالم".
حصة التنظيم الأولى
بدايةً من عام 1931، بدأت المدارس التابعة للإخوان تنمو في أطراف المدن المصرية، وغالبًا ما تكون في الزوايا البعيدة، أو الملحقة بالمقار الدعوية، لتقدم تعليمًا مزدوجًا: رسميًا في ظاهره، تنظيميا في حقيقته.
ولم تكن المسألة محصورة في التعليم الديني فقط، بل كانت هناك مناهج خاصة للفتيات، ومناهج مختلفة للبنين، ضمن مشروع يراد به أن يصوغ عقلًا جمعيًا متقاربًا.
وتشير الوثائق التاريخية إلى أن الجماعة استطاعت تأسيس مدارس للبنين والبنات تحت إشرافها الكامل، دون أي تدخل حكومي، وهو ما خلق فضاءً شبه مغلق، لا يُدرّس فيه إلا من يوافق على "الخط الدعوي"، ولا يُقبَل فيه إلا من يستطيع التماهي مع طقوس الجماعة.
وبحلول عام 1935، كانت الجماعة تدير أكثر من 300 مدرسة، معظمها في المدن، وبعضها في الأرياف، وكانت تدرّس مناهج رسمية مضافًا إليها مواد إسلامية تُعدّ داخل الجماعة، دون رقابة من الدولة.
تنويع المناهج وتحالفات تكتيكية
رغم هذه الاستقلالية الظاهرة، لم يكن الإخوان في عزلة دائمة عن الدولة، بل دخلوا في لحظات تنسيق مرحلي مع وزارة المعارف، لا سيما في الأربعينات، حين بدأ بعض خريجي مدارسهم بالالتحاق بالجامعات، وبدأت الحاجة إلى الاعتراف الرسمي تفرض نفسها.
وحرصت الجماعة، في هذه المرحلة، على دمج العلوم الحديثة مثل الرياضيات والفيزياء في مناهجها، لكنها لم تتخلّ عن الطابع الأيديولوجي للتعليم، بل زادت عليه برامج لا صفية من أناشيد دينية، ورحلات، ومعسكرات، ولجان تثقيف.
بل إن الجماعة أنشأت "اللجنة التعليمية" لتدير شؤون التعليم داخل الجماعة، وصارت كل مدرسة أشبه بخلية تنظيمية، لها مشرف تربوي، ومسؤول دعوي، وسجل للحضور، ورقابة داخلية لا تكتفي بتقييم الطلاب، بل تراقب سلوكهم وميولهم.
من الطابور إلى الطليعة
لم يكن الهدف من هذا كله نشر العلم، بقدر ما كان تعميق الولاء. كان التعليم، كما صممته الجماعة، هو البوابة الأولى للتجنيد. التجنيد هنا لا يأتي عبر استقطاب مباشر، بل عبر تدرج زمني طويل، يبدأ من أول حصة، ولا ينتهي حتى الجامعة.
الطالب، في هذا النموذج، لا يتلقى المعرفة، بل يُعاد تشكيل وجدانه. يبدأ بالشعور بأنه مختلف عن مجتمعه، ثم يشعر أن عليه مسؤولية خاصة، ثم ينتهي به الأمر إلى الشعور بأنه جزء من "طليعة"، لها مشروع أكبر من الوطن، وأعمق من الدولة.
وقد كان لهذا الأثر الكبير في بناء شخصية تنظيمية منضبطة، تنتمي للجماعة أكثر من انتمائها للمجتمع. وكان الشعور بالتميز جزءًا أساسيًا من التربية: أنت لست مثل باقي زملائك في المدرسة العامة، أنت مؤمن، صاحب رسالة، تمشي على نهج الجماعة التي "تفهم الإسلام فهمًا شاملًا".
بعد 1970: فصول التنظيم المغلقة
مع انفتاح السبعينات وعودة الإخوان إلى المشهد، توسّع المشروع التعليمي من جديد، ولكن بوجوه مختلفة. لم تعد المدارس تُعلن ارتباطها بالجماعة، بل ظهرت بأسماء تجارية أو دينية عامة، مثل "الجيل المسلم"، و"الهدى"، و"المنار".
لكن البنية التحتية للفكر التربوي بقيت كما هي: مدير من داخل الجماعة، معلمون معروفون بالولاء، مناهج خاصة، أنشطة موازية، وخطاب ضمني يبني الانتماء بشكل هادئ.
وامتدت هذه المدارس إلى الجامعات والجمعيات ومراكز التحفيظ، وظهر جيل جديد من "الطلاب الإخوان"، الذين نشأوا منذ الروضة داخل هذا النسق، فكان ولاؤهم للتنظيم لا يحتاج إلى محاضرة، بل كان متجذرًا في أول كتاب قرأوه، وأول رحلة شاركوا فيها، وأول معسكر شبابي حضروه.
ما بعد 2013: حين سقط المشروع على رأسه
جاءت أحداث 2013 لتضرب هذا البناء بأكمله. أُغلقت المدارس في مصر، وجُمدت الحسابات، وصودرت الممتلكات، وتعرضت مؤسسات الجماعة التعليمية إلى حصارٍ شامل. لكن الجماعة لم تستسلم، بل أعادت ترتيب أوراقها، وبدأت تستخدم واجهات جديدة، وأسماء أخرى، لإعادة تشغيل منظومتها التربوية بشكل متخفٍ.
لكن التغيير الأهم لم يكن تنظيميًا فقط، بل نفسيًا: كثير من الطلاب الذين نشأوا في هذا المناخ خرجوا غاضبين، مشوشين، وشهدت بعض الجامعات ظهور مجموعات أكثر راديكالية، تعتبر أن جماعة الإخوان لم تذهب بعيدًا بما يكفي.
توغّل مدارس الإخوان في أوروبا
شقّت مدارس الإخوان طريقها في الأرض الأوروبية، لا كزائر غريب، بل كضلع جديد في جسد تعليمي شائك تحكمه شبكة معقدة من النظم والدساتير، من الحقوق والحريات، ومن صراع الأفكار. بعض هذه المدارس خرج من عباءة الجاليات المهاجرة، وبعضها الآخر تمخضت عنه المنظمات المتدثرة بغطاء الدين، في سياقٍ تتحكم فيه خمس رئات تشريعية تتنفس منها تلك المدارس: النظام السياسي، الدستور، قوانين التعليم، علاقة الكنيسة بالدولة، وأخيرا "سياسات الاندماج".
إسبانيا.. العقيدة في كراس الرسم
في إسبانيا، مثلاً، لا يُترك التعليم الديني في أيدي المصادفة أو اجتهاد المعلم، بل تمسك الدولة بخيوطه وتطرّزه بنصوص الدستور. يضمن الآباء لأبنائهم دروسًا دينية على مقاس معتقداتهم، وليس على هوى المقررات العامة. فالحق الديني في التعليم الإسباني ليس ترفًا، بل بنداً دستورياً يفرض على الدولة أن تُؤَمِّن ذلك الحق وتزوده بكل ما يلزمه من نصوص وتشريعات. وقد كان عام 2006 بداية لهذا المسار بمشرط قانون التعليم الأساسي (LOE)، واضعًا مادة الدين المذهبي داخل المدارس العامة، لكنها تبقى معلقةً خارج حسبة الدرجات، فلا تؤثر على بعثة ولا منحة ولا مستقبل جامعي.
فرنسا: السبورة التي كتب عليها المشروع
في فرنسا، لا تزال العباءة الإسلامية تُرتَق بخيوط مرتجفة. ففرنسا، تلك التي يلاحقها تاريخ طويل من توتر العلاقة بين الدين والدولة، أنشأت في 2003 المجلس الفرنسي للدين الإسلامي CFCM، في محاولة لتقنين الصوت الإسلامي وتنظيم حضوره في الفضاء العام، من بناء المساجد إلى إعداد الأئمة والمعلمين وتنظيم المنتديات والمؤتمرات والاحتفالات الدينية.. إلخ. لكن رغم هذا التنظيم، لم تكن العين الفرنسية تراقب بحذر. برغم أن التشدد الإسلامي بالنسبة للعديد من الفرنسيين – بفعل ما تركته الحروب الصليبية من صور ذهنية – هو ندٌّ شرس للحداثة، ولا يمكن للعلمانية الفرنسية أن تصادقه بالكامل. ولكن المدارس الإسلامية هناك كانت تتحرك بصمت، ضمن الفئة التي تحصل على رواتب المعلمين من الدولة، أما برامجها وخططها فتُركت لها، حتى امتد توغلها لـ ٢١ مدرسة تابعة للتنظيم حسب تقرير الداخلية الفرنسي الأخير.
هولندا: جغرافيا بلا خرائط وطنية
وفي هولندا، يختلف المشهد، لكنه لا يقل تعقيدًا. فبفعل تركيبة ديموغرافية مذهبية شديدة التنوع، لم تنجح المدارس الإسلامية في حيازة هوية واحدة، بل توزعت ما بين مشاريع طائفية ومدارس تعليمية بخلفيات متعددة. أنشأت الجماعات الدينية هناك ما في البداية مجموعه 45 مدرسة ابتدائية ومدرستين ثانويتين، جميعها تتلقى دعماً حكومياً كاملاً، سواء كانت ضمن المنظومة العامة أو الخاصة٫ ثم بدأت في الانتشار كالنار في حطام البيت العجوز.
لكن هذا السخاء لا يأتي مجانًا؛ المدارس الخاصة تخضع لحبل من الشروط، منها المتابعة والمراجعة الأكاديمية المستمرة، ويبقى استمرار الدعم رهناً برضا تلك الجهات. التربية الدينية ليست مفروضة، لكن حرية المدارس الخاصة في قبول من تشاء وتعيين من تريد، تمنحها مساحة لحياكة ما تريد من مناهج. غير أن هولندا لا تنخدع بسهولة؛ فهي تمسك العصا من منتصفها، تمنح وتراقب، تصادق وتتحفظ، فلا أحد يحظى بثقة مطلقة.
بريطانيا: مدارس في حضن التعددية
أما بريطانيا، فهي صاحبة النصيب الأكبر من حيث العدد، لكنها الأكثر بُخلاً في الدعم. المدارس المستقلة التابعة للإخوان تنتشر هناك بكثافة، لكن يد الدولة لا تمتد إليها، ولا تحمل لها ميزانية أو تمويلاً. الأسباب؟ كثيرة. قانونية، سياسية، وربما أمنية. الدولة التي طالما تغنت بالتعددية تجد نفسها في مأزق حين يتقدم طلب تمويل من مؤسسة تتبع جماعة ذات خطاب سياسي متشابك.
ورغم أن الفلسفة التربوية والانتماء العقدي يبدوان مشتركين بين مدارس الإخوان في هولندا وبريطانيا، إلا أن الأخيرة تضع فاصلًا حادًا بين الاعتراف والتمويل، بين الوجود الفعلي والشرعية الرسمية. فتلك المدارس تقف وحدها، تدرّس وحدها، وتدير ميزانياتها وحدها، ضمن معركة مفتوحة على أكثر من جبهة، تبدأ من الرؤية السياسية، ولا تنتهي عند بوابة المدرسة.
التعليم كأداة للتجنيد الهادئ
"الإخوان" عرفوا مبكرًا أن القارة العجوز لا تحتمل الخطاب المباشر، لكنها ترحب بما يُلبس لباس التعليم.
في أوروبا، ومع توجس الحكومات من التنظيمات الدينية، وجدت الجماعة أن المدارس باب لا يُغلق، وأن النشء هو الثمرة الأسهل في القطف. بدأت الحكاية من مجموعات طلابية، وتحوّلت تدريجيًا إلى مؤسسات ترعى، وتدرّس، وتُنشئ، وتُنشر.
الفكرة المركزية للجماعة كانت تدور حول أن الفهم العميق للعلمانية، سبيل لتعميق الإيمان – لا العكس. فالمساجد لم تعد قادرة – برأيهم – على إقناع جيل يتحرك بسرعة البرق، ويُسابق العصر في علومه. التعليم، إذًا، هو طريق الدعوة الجديد.
لا تعتمد المدارس على مناهج دينية، بل تتبنى مناهج الدولة نفسها، فيما تدمج الرؤية الخاصة للجماعة بشكل ناعم، في تفاصيل اليوم الدراسي، وفي اختيارات الأنشطة، وفي المؤتمرات التي تنظمها برعاية أسماء متعددة من خلفيات مختلفة – وأحيانًا غير مسلمة.
aXA6IDIxNi43My4yMTYuMTY1IA== جزيرة ام اند امز