في دولنا العربية والإسلامية، للقيادة دائماً مكانة متميزة رفيعة ليس فقط بحكم الإمساك بزمام الأمور وأهمية الموقع القيادي، لكن قبل كل ذلك لأن القائد هو قدوة يهتدي به الناس ويسير شعبه على دربه.
وبالتبعية تكتسب القيادات الأخرى المحيطة به تلك الصفات وتكون جديرة أيضاً بتلك الثقة والمكانة.
مناسبة الحديث أعلاه، ما طرحه الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، على منصة إكس (تويتر سابقاً). حيث قال: "علمتني الحياة: أن لا أقيس عمر الإنسان بسنوات حياته بل بقدرات عقله وعمق وعيه.. وألا أقيس عمر الدول بتاريخ استقلالها بل بإنجازاتها التي يكتبها التاريخ.. وأن الدول العظيمة ليست مجموعة مؤسسات قوية.. بل مجموعة قيم وأخلاق ومبادئ تتمثل على هيئة بشر".
هي من حيث العدد كلمات بسيطة ولكن من حيث الحكمة فالمعنى عميق. وهي كلمات تلخص تجربة حياتية واقعية يعيشها الجميع. وبالتالي فالأمر يحتاج إلى التأمل فيها والوقوف أمامها.
من النادر أن يجد المرء على مستوى الزعماء والقادة، من يدرك أن أعمار الدول لا تقاس بأوقات استقلالها أو تاريخ التأسيس، وإنما برصيدها العملي من الإنجاز لصالح الشعب والإنسانية. وعالمنا مليء بالكثير من قصص النجاح في هذا المجال مثل: سنغافورة وماليزيا وكوريا الجنوبية. ومن حيث الفهم العلمي فتأسيس الدولة أو استقلالها ليس إلا تأريخاً رسمياً لموعد اكتساب صفة الدولة في المنظمات الدولية، بينما العمر الحقيقي هو العمر "العملي" الذي يقاس بما أضافته الدولة من إنجازات خدمت بها البشرية، وما قطعته من أشواط على طريق الحضارة والازدهار وتركت تأثيراً فيها. وفي هذا تكاد دولة الإمارات تكون هي التي غيرت مسار منطقة الشرق الأوسط في تاريخنا الحديث وغيرت الصورة النمطية عن هذه المنطقة.
وكي لا نخرج عما جاء في حديث الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، فكل شيء في العالم يتكون من شقين هما: الشق المادي والشق الروحي، والدول التي تكبر وتتعاظم بخطوات عملية ومكاسب مادية، تظل بحاجة إلى الاهتداء بالوعي والحكمة وغيرهما من القيم والمبادئ، التي تعمل كمنظومة توجيه وإرشاد ليس لسياسة الدولة وتوجهاتها فقط، لكن أيضاً لرؤاها المستقبلية وأهدافها التي بموجبها توضع السياسات الداخلية والخارجية.
فسياسة دولة الإمارات المبنية على التعاون والانفتاح، تنطلق أساساً من منظومة قيمية متكاملة ومتنوعة، قوامها الرئيس هو المساواة بين البشر، فلا تمييز (مع أو ضد) وفقاً للعرق أو اللون أو اللغة أو العقيدة. وتنبثق من هذه المساواة قيمة أخرى عليا هي التسامح والتعايش، ذلك أن الإيمان بالمساواة يحول دون تبني مواقف مسبقة أو وضع تصنيفات تمييزية. فيكون التسامح هو المنطلق في التعامل مع كل صنوف البشر ومن ثم الدول.
ووفقاً لذلك علينا أن نقف بتمعن عند توجه الإمارات نحو الشراكات كأحد المنطلقات الجديدة في سياستها الخارجية. فالأمر هنا ليس صدفة وإنما مبني على أن البشر مشتركون في الحياة على الأرض، ويتشاركون تحدياتها وأعباءها مثلما يتقاسمون مكاسبها ومواردها. لهذا لا تستغرب حالة النشاط الدبلوماسي الإماراتي في القضايا الدولية والعمل على أنسنتها. فالقيم والأخلاق هي التي تمنع العالم من التحول إلى غابة تتوحش فيها الدول ضد بعضها.
يوجد سبب جوهري لتصارع الحضارات والدول على مر التاريخ، وأفول بعضها، وهو الانزلاق إلى الأحادية والأنانية السياسية. ففي الداخل، قد يؤدي التركيز الصارخ للحرية الفردية إلى تفاوت طبقي واحتقان مجتمعي. وفيما بين الدول، حين يتم تغليب إحدى أو بعض القيم على حساب الأخرى والعمل على فرضها باعتبارها القيمة الأصلح للجميع دون النظر إلى الخصوصيات المجتمعية لكل دولة وشعب، تكون النتيجة حدوث فجوة بين الشعوب وربما توتر ونزاعات بين الدول. بينما المطلوب والأصح هو التوازن بين القيم واحترام اختلاف الرؤى والتقديرات بشأنها من شعب إلى آخر ومن حضارة لأخرى.
إن وصف الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم الدول العظيمة بأنها ليست مؤسسات قوية وحسب، إنما هي قيم وأخلاق ومبادئ في هيئة بشر، هو تشبيه دقيق لما يجب أن تكون عليه الدول من جمع بين العقل والروح، والمادة والقيم. ودون هذا التوازن، لا جدوى من المساواة ولا داع للتسامح ولا مكان للتشاركية. إذ تفتقد الدول عظمتها وقيمتها، إذا صارت بلا روح وبلا غاية وبلا أساس أخلاقي تنطلق منه وتحتكم إليه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة