إنضاج التسويات المتعلقة بسوريا لن يتم بين ليلة وضحاها، هذا ما يدركه الجميع، خصوماً كانوا أو حلفاء.
والأسباب ليست خافية على أحد، بعضها مرتبط بالواقع الناشئ نتيجة سنوات الحرب والانتقال بعدها إلى مرحلة صراع مرتبط بشكل مباشر بتعدد اللاعبين وتنوع مصالحهم وتوزع ولاءاتهم على الأرض السورية، سواء كانوا محليين أو خارجيين، وبعض الأسباب منبثق عن تناقض الأهداف الاستراتيجية في ما بينهم أساسا، وغيرها من الأسباب نابع من التعقيدات والتشابكات المتراكمة جراء سنوات الحرب وما خلفته من حطام في البشر والحجر، وفي الدولة ومؤسساتها، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، إضافة إلى ما استجلبته الحرب وظروفها من عقوبات وحصار أطبقا على البنية التحتية للبلاد ، وهي اليوم تسهم في نهش أجساد الناس بلا رحمة.
بعد موجة التطورات والانفتاح الذي شهده الملف السوري في مساريه التركي والعربي خلال الأشهر الماضية، بدا وكأن هذه الموجة قد تراجعت فعاليتها.
هَدمَ العرب الجدار النفسي والسياسي مع سوريا، فأشاعوا مناخاً من التفاؤل بإمكانية الدفع باتجاه التعافي العام تدريجيا ضمن مسارات واضحة المعالم تضمنتها خارطة الطريق العربية، بالتوازي مع توسع دائرة اللقاءات السورية التركية برعاية روسية وبحضور إيراني، ووصل الأمر إلى إعلان موسكو عن خارطة طريق خاصة للتطبيع بين دمشق وأنقرة تم الترحيب بها من قبل البلدين.
سهّلت جملة من التطورات الإقليمية والدولية عملية الدفع في كلا المسارين، بقي العرب على مواقفهم المنفتحة وأزالوا جميع عقبات الانخراط السوري في مؤسسات الجامعة العربية، واستعادت علاقات دمشق مع بعض العواصم العربية زخمها، إن بصيغة ثنائية، أو ضمن صيغة الرباعية العربية أو لجنة الاتصال الخاصة بسوريا على قاعدة ما بات يعرف بمعادلة "خطوة مقابل خطوة".
السؤال العريض المرافق لكل عناصر هذا المشهد، سواء في تسارعه أو في بطئه: هل تستطيع دمشق في وضعها الراهن تلبية بنود المبادرة العربية بشكل عملي بعد أن أبدت ترحيبها وحرصها على التفاعل معها؟ وماذا بالنسبة لخياراتها حيال متطلبات التطبيع مع تركيا؟.
بقدر ما يبدو الانفتاح السوري على المبادرة العربية ضروريا لمصالح سوريا دولة وشعبا، حاضرا ومستقبلا، فإنه ينطوي في الآن ذاته على أهمية ترقى إلى وصفها بالاستثنائية لتعزيز مسارها متعدد الاتجاهات للخروج من هذا النفق؛ فهو هام لها لترتيب أوراقها الداخلية، والاستفادة من الدور العربي في بلورة قواسم مشتركة بين الأطراف السورية جميعها، معارضة وموالاة، على قاعدة التعهدات التي وردت في خارطة الطريق العربية بالحفاظ على وحدة تراب سوريا واستقلالها وبسط سيادتها على كامل أراضيها وإطلاق العملية السياسية بالتوافق مع مقتضيات القرار 2254 من خلال حوار سوري - سوري، والإسهام في حل مشكلة اللاجئين السوريين مع دول الجوار، وقطع الطريق على محاولات تحويل هذا الملف إلى ورقة ضغط وابتزاز إضافي ضدها، وبالتالي التمهيد، أو التزامن، في عملية إعادة الإعمار المكبلة بعقوبات وحصار مشروطين بتحرك قطار التسوية السياسية، بالإضافة إلى تعزيز موقفها السيادي والسياسي في معركتها التفاوضية مع أنقرة في ظل استعادة العلاقات العربية التركية حيويتها، وتدشينها صفحة جديدة على أساس المنفعة المتبادلة والمصالح المشتركة واحترام الشؤون الداخلية لكلا الطرفين، وهذا التقارب العربي التركي يفيد في منح الجانب العربي هامشا أوسع لإنتاج مقاربات سياسية مقبولة لدى دمشق وأنقرة تكون صالحة للتأسيس ومن ثم البناء عليها على طريق التدرج نحو التطبيع بين الجارين السوري والتركي.
أمام هذه المعطيات والوقائع الماثلة في المشهد السوري فإن مسألة انسداد أو جمود الأفق السياسي باتت غير قابلة للاستمرار، لأن الجمود من شأنه أن يفجر مكامن الخطر في ساحات ليست في الحسبان، ومن شأنه أيضا هدر الفرص الثمينة، وزيادة ضغط وأعباء ومخاطر الملفات الداخلية وفي مقدمتها الظروف المعيشية القاهرة لغالبية الشعب السوري. الخيارات لا تزال متاحةً ورحبة رغم السحب الداكنة التي تتجمع في الأفق.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة