كل فرد منا يرغب في التميز والإنجاز.. ولكن هل حقا نقدّر ما ننجز؟
يختلف مفهوم الإنجاز من شخص لآخر، حسب مجاله ونظرته للحياة، ولكن في الآونة الأخيرة ومع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي وحصر الإنجاز في بعض النماذج البرّاقة والثرية المشهورة، أصبح لدى الكثيرين شعورٌ بالإحباط، وأنَّ ما فات من حياتهم كان هباءً منثورًا بلا إنجازات.
في اعتقادي أننا نكبّل أنفسنا بإنجازات وهمية، ونُصاب بلعنة المقارنة بغيرنا، ولا نسأل: هل الناجحون الذين نراهم سعداء ويشعرون بإنجازاتهم فعلا؟
هناك نماذج لأشخاص ناجحين يعانون الاكتئاب، ما دفع بعضهم لإنهاء حياته بالانتحار، مثل الممثل الأمريكي العالمي "روبن ويليامز"، الذي قاده الاكتئاب والقلق إلى الانتحار شنقًا، كذلك المغنية الإيطالية-المصرية "داليدا"، التي تمكّن منها الاكتئاب بعد حياة مليئة بالنجاحات والإخفاقات، فأنهت حياتها بجرعة أدوية زائدة، وأيضا المبرمج المشهور "آرون سوارتز"، الذي انتحر في شقته بنيويورك عن عمر 26 عامًا.. وقال مقربون منه إنه عانى الوحدة والاكتئاب.
ولم يسلم الحقل الرياضي من حالات الانتحار، فنجد السبّاح العالمي "مايكل فيليبس" يتحدث عن محاولاته المتكررة لإنهاء حياته، وقال في مقابلة له مع صحيفة "فوكس" الأمريكية إنه كان يفكر في الانتحار بعد انتهاء كل دورة أوليمبية رغم فوزه بالميدالية الذهبية.
رغم ما يفعله هؤلاء الناجحون من إنجازات عالمية وملموسة ورغبة كثيرين في أن يصبحوا مثلهم، فإنهم يواجهون أزماتٍ نفسيةً وصراعاتٍ داخلية، ويرجع ذلك لأن السعادة بالإنجاز -مهما بلغ حجمه- سرعان ما تتلاشى، ويفكر الشخص في إنجاز جديد ليسترجع ذلك الشعور بالنصر مرة أخرى، لذلك مَن يصل إلى القمة يعاني مما أسميه "متلازمة الإنسان الناجح"، فعند وصوله إلى ذروة النجاح في مجاله، كحصوله على ميدالية ذهبية حال كان رياضيا، يشعر باكتئاب ما بعد النصر، لأنه لا يجد أهدافا أخرى يسعى إليها، فيشعر أنه لا يقدم شيئا قيما لحياته فيصاب بالإحباط.
وهناك من يصلون إلى ذروة المجد في مجالاتهم ويصيبهم القلق والاكتئاب المستمر لخوفهم من خسارة القمة أو أن يتفوق عليهم آخر، وهناك من يبلغون أعلى المراكز في أعمالهم، ومن ثم لا يجدون شيئا جديدًا يمكن فعله فيطرقون أبواب مجالات جديدة باحثين فيها عن إنجازات تجلب لهم السعادة.
لقد صوّرت لنا وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي أن الإنجاز يجب أن يكون أسطوريا، وهذا أمر غير دقيق، وغير صحي، فهناك إنجازات بسيطة في حياتنا اليومية يجب أن نفخر بها، فكما قال النبي محمد: "مَن أصبح منكم آمنا في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حِيزت له الدنيا بأسرها".
هذا المفهوم يقود لك الدنيا ببساطة، فإذا كنتَ تشعر بالأمان في بيتك وبين عائلتك وتهنأ بصحة جيدة وطعام يكفيك، فهذا إنجاز يضاهي أغلى ثروات الدنيا مصحوبة بمرض أو خوف، ولكننا لا ننظر لهذه الإنجازات لأنها باتت مألوفة لنا.. لذا تصغُر في أعيننا الحياة، فنبتئس.
أعتقد أن الإنجاز الصحي هو مقارنة النفس بالنفس: هل أصبحتُ شخصا أفضل واكتسبت خبراتٍ أكثر من العام الماضي؟ هل تعلّمتُ أشياء جديدة زادت رصيدي المعرفي؟ هل زُرتُ أماكن جديدة وعرفت آخرين يضيفون لي قيما أغلى؟
لو كانت الإجابة نعم، فأنت شخص مُنجِز ومفيد لنفسك، لأنك مدرك لظروفك وتغيراتك، فلديك القدرة على إقامة مقارنة عادلة متكافئة الفرص إلى حد ما، أما المقارنة بآخرين لا تملك ظروفهم ولا قدراتهم ولا فرصهم فتؤدي إلى الإحباط والإحساس بالعجز لعدم الوصول إلى ما وصلوا إليه، فيجب ألا نستهين بإنجازاتنا ونقدّرها مهما كانت صغيرة.
العالم من حولنا كبير جدا ويزداد ضخامة.. ولعل في الأحلام الصغرى والمنجزات الصغرى ما يشفع لنا أمام هذا العالم الضخم ويشهد بأننا لا نزال ناجحين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة