تابعت كغيري على مدار الأيام الماضية الجدل الدائر حول التزامات الزوجة، وقائمة المهام غير الملزِمة بها، وتلك التي تُؤجَر عليها.
نار "الترند" أشعلتها المحامية المصرية نهاد أبو القمصان، عضو المجلس القومي لحقوق الإنسان في مصر، بفيديو قالت فيه بعدم إلزام الزوجة بإرضاع مولودها، ولو أرضعته تحصل على أجر مقابل ذلك، مستشهدة بما جاء في القرآن الكريم في سورتي "البقرة" و"الطلاق"، حيث يقول تعالى في سورة "البقرة": "وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ". وفي سورة "الطلاق" يقول تعالى: "فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ".
ما فعلته "نهاد" حقيقة هو أمر محمود تماما، بإلقاء حجر في الماء الراكد، واستفزاز طاقات العقل، وحثه على التفكير والتأمل، وإعادة تقييم ما استقر أنه حقيقة دون الرجوع لأصل الأشياء، أو فهم دوافعها أو كيف تشكّلت، وما أكثر القضايا التي نحتاج إلى أن نعيد هدمها وإعادة بنائها على أساس سليم، حتى وإن بدا أنها تصطدم مع أصول فقهية، فحتى المسلّم به يحتاج إلى أن يُعاد التسليم به عن تفكير وقناعة، فظني أن مجتمعاتنا بكل ما تعج به وما يحيطها من تطورات، تستحق أن تغادر المراهقة الفكرية، وتُرفع عنها الوصاية -أي وصاية- وتُترك لعملية تنقيح حقيقية، وربما تصل إلى النتائج ذاتها، لكن بقناعة حقيقية وفهم أعمق.
ما استفزني في القضية أنها على عمقها يتم التعامل معها باستهزاء وتحوّلت لـ"كوميك" ولحالة استخفاف، إما بدافع عدم منطقية الطرح، أو لاستحالة تطبيقه، أو لمجرد طرفة لكسر ملل الواقع، فحتى وإنْ كان الطرح بـ"الست مش مُلزمة بالرضاعة والطبخ وخدمة الزوج أو أمه وغيره" يُسند لأصل شرعي، لا أدعي قدرتي على تأييده أو دحضه، فلا يجب أن ينفصل الطرح عن الواقع، فهناك أيضا ما يسمى "فقه الواقع" أو "فقه النوازل".. والشائع أنه "فهم النوازل والمتغيرات ودراستها دراسة مستفيضة والاجتهاد في استنباط الأحكام لها عبر منهج فقهي يجمع بين العلم بالشرع ومقاصده والمعرفة بالواقع ومستجداته".
ذلك الجدال من شأنه ألا يصل بالمتجادلين إلى نقطة التقاء ويجعل الخلاف مجرد "ترند"، بقدر سرعة اشتعاله تأتي مرحلة الخفوت، لكن ما يجب الالتفات إليه أن قضايا مثل الزواج وتكوين الأسرة وواجبات الأمومة والأبوة مما لا يصلح معه تطبيق بنود تعاقدية، أو بناؤها على علاقات مشروطة ببنود افعل ولا تفعل، أو الفعل مقابل الأجر، فذلك يتعارض مع طبيعة البشر المتحركة دائما وغير الساكنة، ما يتطلب معها قواعد مرنة تواكب التطور الدائم، وربما الأنسب هو وضع آلية للتفاهم وحل الخلافات التي حتما ستظهر، لا وضع قواعد لمنعها.
"الفضل قبل العدل"، الباب الأمثل لفك الاشتباك، فالعلاقات الزوجية بها من المواقف والمشاعر و"فعل الحياة"، التي لا يمكن أبدا قياسها، ولا يستطيع أحد أن يضعها في خانة مادية قابلة للتقييم، بل ليس لها سوى أنها من باب الفضل الذي لا يقدر بثمن.
"الخدمة مقابل الأجر"، حتى وإن أوجدوا لها أصلا، وإنْ وضعوا ثمنا للفعل فكيف سيتم تقدير الأثر، ربما يضعون راتبا لإرضاع الصغير، ولكن كيف سيقدرون قيمة إشباعه، ووارد أن يكون هناك تعريفة لصناعة وجبة أو تنظيف بيت، لكن كم يبلغ ثمن المودة والرحمة؟!
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة