قبل نحو 50 عاما، نشر المفكر الاستراتيجي الراحل جمال حمدان كتابه الصغير "قناة السويس.. نبض مصر" عقب الافتتاح الثاني للقناة بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول التي كانت قد أغلقت قبلها لثماني سنوات منذ هزيمة يونيو/حزيران 1967، التي رافقها الاحتلال الإسرائيلي لسيناء
ويبدو واضحاً ولافتاً المعنى الظاهر في اختيار عنوان الكتاب من مفكر بحجم جمال حمدان، يدرك جيداً مضمون المصطلحات. فعبارات ومصطلحات جمال حمدان التي استقرت في الفكر والوجدان العربيين، تشير إلى مصر على أنها عبقرية المكان والموضع والموقع، بينما يأتي نبضها من قلبها الذي هو قناة السويس، التي بهذا المعنى هي مفتاح الحياة لها.
والقلب هنا ليس فقط بالمعنى الاقتصادي الكبير الذي مثلته القناة لمصر والذي تزداد أهميته مع الزمن وتزايد التجارة العالمية، لكنه أيضا بالمعنى الاستراتيجي والأمني القومي لمصر الدولة والمجتمع. فطوال مئات، بل آلاف السنين، ظلت التهديدات والاعتداءات العسكرية الكبرى التي هددت مصر على مختلف حقبها وعهودها، تأتي غالبيتها الساحقة من بوابتها الشرقية سيناء.
وظلت الدولة المصرية وجيشها منذ آلاف السنين، وقبل حفر قناة السويس، توجه أنظارها دوماً إلى شرق البلاد وصولاً إلى سوريا، لمقاومة ودحر أي غزو قادم من هذه الجهة. هكذا كان الحال مع الحيثيين والهكسوس والكنعانيين في عهود أسرات الفراعنة، وهكذا كان الحال أيضاً في العصور الإسلامية مع صد وهزيمة جحافل الصليبيين والتتار، وبعدها مع الجيوش المصرية وهي تتجه شرقاً في أراضي الدولة العثمانية لتقف على بعد خمسين كيلومتراً من عاصمتها الآستانة، في عهد محمد علي ونجله القائد الكبير إبراهيم.
وبعد حفر القناة قبل أكثر من قرن ونصف القرن لتصبح حاجزاً اصطناعياً لحماية حدود مصر الشرقية من العدوان، لم يمنع هذا مواصلته من تلك الحدود خلال الأعوام السبعين الأخيرة. فعدوانا 1956 و1976، كلاهما أتيا من الشرق عبر سيناء، وكلاهما توقف عند ضفاف قناة السويس ولم يعبراها إلى الضفة الغربية، حيث الدلتا والعمران الكثيف.
وكان جزء كبير من فضل توقف هذه الجيوش المعتدية هو صعوبة عبور قناة السويس إلى الغرب، فقاموا باحتلال شبه جزيرة سيناء لبعض الوقت. وبعد احتلال سيناء لمدة ثماني سنوات بعد عدوان 1967، لعبت قناة السويس دوراً حاسماً في الانتصار المصري على الجيش الإسرائيلي في حرب 6 أكتوبر/تشرين الأول 1973 المجيدة، حيث أقيم شرقها التحصينات الإسرائيلية الضخمة، وظن الجميع أن الجيش المصري لن يكون قادراً على عبور أطول مانع مائي في تاريخ العالم ليصل بعدها لهذه التحصينات والخطوط الدفاعية، فكان هجوم الجيش المصري عبر القناة عنصر مفاجأة عاصفا للقيادات والقوات العسكرية الإسرائيلية المتحصنة على ضفتها الشرقية.
واستوعبت الدولة المصرية عبر التجارب والسنين أن استكمال خطوط الدفاع عن أمن البلاد القومي الاستراتيجي من المصدر التاريخي للعدوان على البلاد، أي الجبهة الشرقية، يستلزم ضرورة تنمية الإقليم المحيط بقناة السويس، لأن هذا فضلاً، عن فوائده لساكنيه من أبناء الشعب المصري، سيضاعف أيضا من قدرة مصر على حماية تلك البوابة استراتيجياً، بالإضافة إلى ما تملكه من وسائل عسكرية لحمايتها.
ولكي تكتمل تلك التنمية كانت هناك دوماً ضرورة قصوى لتعمير سيناء وتكثيف الوجود البشري والنشاط الاقتصادي بمختلف أنواعه بها، الأمر الذي ركزت عليه الدولة المصرية خلال السنوات الثماني الأخيرة بصورة غير مسبوقة عبر التاريخ المصري كله، منفقة عليه مئات المليارات من الجنيهات، بما فتح آفاقاً جديدة واسعة أمام أبناء سيناء عموما وشبابها خصوصاً لكسب عيش كريم ومستقر وقانوني.
وبالتوازي مع هذا وفي نفس السنوات، أقامت الدولة المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، والتي تمتد على ضفتيها الشرقية والغربية لنحو 500 كيلومتر مربع، وتشمل مئات الأنشطة الصناعية والتجارية والخدمية، لتضيف إلى قناة السويس، أو نبض مصر، مزيداً من النبض والحيوية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة