حرص السُلطان قابوس على المُزاوجة بين "الأصالة" و"المُعاصرة" والرغبة في الحفاظ على التُراث الحضاري العريق للسلطنة
بوفاة السُلطان قابوس بن سعيد في 10 يناير 2020، رحل زعيم خليجي وعربي قاد بلاده على مدى نصف قرن وسط أنواء وتحدياتٍ داخلية وإقليمية فتعامل معها بحكمة واقتدار، وانتهج سياسات داخلية وخارجية فريدة حققت التنمية لشعبه، وطور سياسة خارجية مُتميزة جعلت منها "وسيطا نزيها" في كثيرٍ من النزاعات الإقليمية. كان السُلطان مُدركا دوره وقُدرة بلاده على القيام بهذه المُهمة واستمعت إليه يتحدث عن هذا الدور وصعوباته في عديد من اللقاءات التي جمعتني به خلال الفترة 1985- 1990، عندما كُنتُ أُدير مشروع "موسوعة السُلطان قابوس للأسماء العربية".
حرص السُلطان قابوس على المُزاوجة بين "الأصالة" و"المُعاصرة" والرغبة في الحفاظ على التُراث الحضاري العريق للسلطنة ويتضح ذلك في تسمية الوزارة التي تعنى بالثقافة باسم "وزارة التُراث القومي والثقافة"
عندما تولى السُلطان قابوس الحُكم في عام 1970 كانت سلطنة عُمان تُعاني من مُختلف مظاهر التخلف الاقتصادي والاجتماعي بسبب العُزلة التي فرضها والده على البلاد خلال فترة حُكمه التي امتدت نحو أربعة عقود من 1932-1970. ويكفي أن أُشير إلى أنه في عام 1970 كان عدد الشوارع المرصوفة في مدينة مسقط العاصمة لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة، وأنه لم يكُن هناك في البلاد إلا ثلاث مدارس تضم 909 طلاب ولم يكُن هناك تعليم للفتيات، وأن مُتوسط العُمر المتوقع عند الميلاد للإنسان العُماني كان 49 سنة فقط، ما يدُل على سوء الخدمات الصحية. لم تكُن هُناك عُملة مُوحدة في البلاد وفُرضَت قيود على الانتقال من منطقة لأخرى.
وكانت الأسوار التقليدية التي أحاطت بالمدُن قائمة تفرضُ قيودا على الحركة من وإلى المدينة. وعلى المُستوى السياسي، لم يكُن هناك وزارات أو جهاز تنفيذي، وكانت البلاد في أتون حرب داخلية بين الدولة وجبهة تحرير ظُفار التي نشطت في بداية حقبة الستينيات ودعت إلى تغيير أوضاع البلاد. بل لم تكن سلطنة عمان عضوا في جامعة الدول العربية حتى عام 1970.
كان الحاكم الجديد في الثلاثين من عُمرِه وأهله تعليمه لمواجهة هذه التحديات. كان قد تعلم وتخرج في كُلية سانت هيريست الملكية العسكرية في بريطانيا، وتلقى دورات في فنون الإدارة وشؤون الحُكم وسافر إلى عددٍ من الدول الأوروبية للاطلاع على أوضاعها ونظُمها وآدابها وفنونها.
جمع في تكوينه بين الخلفية العسكرية التي تعزز قيم النظام والانضباط والواجب، ومعرفة تاريخ عُمان والمسار السياسي الذي اتبعه أجداده من آل البوسعيد، خاصة جده الأكبر سعيد بن سلطان الذي حكم خلال الفترة 1806- 1856 الذي في عهده وصلت السفينة العُمانية "سُلطانة" إلى ميناء نيويورك عام 1840 وكانت أول سفينة عربية تصل إلى هذا الميناء.
وكانت فترة الست سنوات (1958-1964) التي قضاها خارج بلاده فرصة للتعلم والقراءة والتدبر والتأمل في أحوال بلاده والعالم.
تعلم من التاريخ أن عُمان هي مُجتمع قديم ضارب بأطنابه في أعماق الماضي الذي يَعودُ إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، وأنه في القرن التاسع عشر كان لها أسطولها التُجاري الكبير وأن نفوذها وحكمها تجاوز الحدود المعروفة الآن ووصل إلى زنجبار على الساحل الأفريقي، وأن القوى الأجنبية لم تتمكن أبدا من احتلال كُل أراضيها بل اقتصر وجودها، ولفترات محدودة، على الساحل. وأن مدينة مسقط كانت المعبر الرئيسي للتجارة والترحال بين إمارات الخليج العربي والهند. وأدرك خصوصية العلاقة بين الدولة والمُجتمع والسمات الخاصة بالقبائل العُمانية والعلاقات التي تربطُ بينها.
وإضافة إلى ذلك، حفظ القُرآن الكريم وقرأ تاريخ المُسلمين والعرب.
وأُريدُ في هذا المقال أن أُركزُ على ثلاثة جوانب متميزة ينبغي التوقف أمامها عند تحليل ما قام به السُلطان قابوس. الجانب الأول هو إيمانه بالتماسُك الاجتماعي وأن نهضة الدُول تقوم على قوة مُجتمعاتها وترابطها وضرورة إتاحة الفُرصة لكل عناصر المُجتمع وأفراده في المُشاركة في التغيير ما دامت راغبة وقادرة على ذلك وبغض النظر عن مواقفها السابقة.
يدل على ذلك أنه في أغسطس عام 1970 أي بعد شهر واحد من توليه الحُكم، أعلن السُلطان قابوس بيانا وجه فيه الدعوة لجميع المُعارضين السياسيين في الخارج للعودة إلى البلاد والمساهمة في بناء "عمان الجديدة" والمُشاركة في تحديث مؤسساتها واقتصادها، ودعوة للمُعارضين في ظُفار بإنهاء مظاهر نشاطهم العسكري والمُشاركة أيضا في البناء. واستجاب للدعوة الكثيرون الذين أصبحوا جُزءا من جهاز الدولة وتولوا مناصب عُليا فيه.
فكان من بينهم يوسف بن علوي الذي كان مُقيما في القاهرة الذي أصبح فيما بعد سفيرا في لُبنان ثُم وزيرا للدولة للشؤون الخارجية، وعبدالعزيز الرواس الذي تولى وزارة الإعلام. وفي هذا السياق، عاد إلى الأضواء السيد طارق بن تيمور الذي كان قد اختلف مع شقيقه السلطان سعيد بن تيمور، والد السُلطان قابوس، فدعم النظام الجديد وشغل منصب رئيس الوزراء 1970-1972.
وبالمناسبة فهو والد السلطان هيثم الذي أوصى السلطان قابوس باختياره خليفة له، وأقر مجلس العائلة هذا الاختيار. قَدم هذا النهج نموذجا استثنائيا في أوضاعنا العربية للمصالحة الوطنية والتسامي على الخلافات السياسية وإدراك أن كل خلاف لا بد أن تكون له نهاية وأن اللدد في الخصومة يؤدي إلى الضعف والتفكُك.
الجانب الثاني يتعلق بتوجهات السياسة الخارجية التي اتبعها السلطان قابوس والتي تأسست على عدم التدخُل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى والنأي بالذات عن الخلافات والنزاعات والسعي لحل الخلافات بالطرق السلمية، والحفاظ على العلاقات مع الأطراف المتنازعة. ومن مظاهر السلوك المتميزة أنه عندما قامت أغلب الدول العربية بقطع العلاقات الدبلوماسية مع مصر بعد توقيعها اتفاقية السلام في 1979 امتنعت سلطنة عمان عن ذلك، وتكرر السلوك نفسه عندما قامت أغلب الدول العربية بقطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران إبان الحرب مع العراق 1980-1988.
وكذلك عندما قامت أغلب الدول العربية بقطع علاقاتها الدبلوماسية مع العراق في أعقاب غزوها الكويت في أغسطس 1990.
وسمح هذا السلوك للسلطنة بأن يكون لها تواصُل وعلاقات مع كُل الأطراف وأن تكون محل ثقتها وأن تكون قادرة على نقل رسائل بين الأطراف المتنازعة بنزاهة، فكان لها دورها في تنظيم اللقاءات بين ممثلي الولايات المُتحدة وإيران قبل توقيع اتفاقية البرنامج النووي الإيراني في عام 2015. وتكرر ذلك في مُناسبات تالية بين البلدين. وترددت أخبار عن قيام ممثلي السلطنة بنقل رسائل بين الحكومة الشرعية في اليمن والحوثيين.
أما الجانب الثالث فيتصل بمنهج التغيير الذي تبناه السُلطان قابوس وهو منهج التدرج وعدم الاندفاع في تطبيق تغييرات ثقافية واجتماعية دون تقدير لردود الفعل وقبل إعداد المجتمع لتقبلها. كان لديه رؤية متكاملة لتغيير مختلف مجالات الحياة ولكنه قام بتطبيقها بشكل تطوري متدرج.
بُني هذا التدرُج على نُضج وحكمة هي نتاج التاريخ العُماني الذي شهد لعقود صراعات داخلية مرة بين "الإمامة" و"السلطنة"، ومرة أُخرى بين الدولة ومن حملوا السلاح ضدها. وكان هذا التدرُج أيضا بسبب حرص السُلطان قابوس على المُزاوجة بين "الأصالة" و"المُعاصرة".
والرغبة في الحفاظ على التُراث الحضاري العريق للسلطنة ويتضح ذلك في تسمية الوزارة التي تعنى بالثقافة باسم "وزارة التُراث القومي والثقافة" وفي تبني مشروعات ثقافية كُبرى مثل جمع الأمثال الشعبية العُمانية وحفظ الألحان والموسيقى العُمانية وتسجيل وتحليل الأسماء العربية.
إن ما قام به السلطان قابوس في خمسين عاما يضعه في مصاف بناة الدول وصناع النهضة ورعاة السلام. رحمه الله رحمة واسعة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة