لم يعد هناك صنف من أصناف الحرب إلا وجربه السوريون واجترعوا من كأسه ما يترع النفوس والأرواح، وآخرها النيران التي تلتهم حقول القمح.
لم يعد هناك صنف من أصناف الحرب إلا وجربه السوريون واجترعوا من كأسه ما يترع النفوس والأرواح، وآخرها النيران التي تلتهم حقول القمح، ولا غلو إن أسميناها "حرب الخبز"؛ ففي سوريا يعتبر محصول القمح من المحاصيل الاستراتيجية لها دولةً وشعباً.
وتعد المحافظات الشرقية الأولى على صعيد سوريا في إنتاج القمح فهو محصول يعمل في زراعته وإنتاجه ما يقارب ثلاثة ملايين مواطن في مساحة تمتد على آلاف الهكتارات (الحسكة- الرقة- دير الزور) إذ يعتمدون عليه في كسب قوتهم. كما تعتمد الدولة السورية على إنتاجهم لتحقيق الاكتفاء الذاتي من الخبز ومادة الدقيق وتصدير الفائض لرفد خزينة الدولة بمصدر اقتصادي لا يستهان به -وإن كان اليوم أقل مما مضى بسبب الحرب الدائرة في سوريا وتراجع مقدار المساحات المزروعة عما قبل الحرب- ولكن هذا المحصول اليوم يكاد أن يكون هباء منثوراً نتيجة الحرائق التي التهمت آلاف الهكتارات. وقد خلفت خسارة تُقدّر حتى الآن بعشرة ملايين دولار دون معرفة اليد الفاعلة التي تقف وراء هذه الحرائق وإن بادر كل طرف من أطراف الأزمة السورية إلى إلقاء التهم على الطرف الآخر، إلا أن ما لا شك به أن الحرب والأوضاع السائدة على كامل الأرض السورية لها الدور الأكبر في هذا الأمر والتي يمكن رصدها على مستويين:
كل هذه الممارسات ما هي إلا حرب على أنقاض حرب قد تكون أشرس، فعلاوة على أن الحرائق تأكل اقتصاد سوريا وخبز مواطنيها، وتكشف العجز عن احتوائها فإنها تكشف الستار عن أن نيران الحرب مازالت في النفوس مستعرة بعيدة عن الإخماد
الأول هو انهيار البنى التحتية في سوريا جراء الحرب؛ فعلى مدى ثمانية أعوام من الأزمة السورية، اتسمت بالحرب والدمار وتنازع السيادة على الأرض بين الأطراف المتصارعة، وهو ما جعل المؤسسات المدنية والبنى التحتية شبه منهارة لاستيلاء كل طرف على كل الموارد المتاحة في مناطق سيطرته، بهدف خدمة عملياته العسكرية تاركاً الخدمات المدنية والاجتماعية دون موارد لتطويرها وآليات وعناصر.
بالإضافة إلى ذلك يتم استهداف الفصائل التي تعارض الطرف المسيطر لهذه البنى بذريعة استخدامها لمصالح عسكرية، فتعاني محافظة الحسكة –على سبيل المثال– من النقص الحاد في سيارات الإطفاء وفرق الدفاع المدني المدربة بشكل كافٍ لمواجهة مثل هذه المعضلة، كما أن أسباب الانتشار الواسع لهذه الحرائق هو تأخر عملية الحصاد؛ بسبب النقص الحاد في المكننة الزراعية (الحصادات)، وعجز الموارد الشحيحة منها عن تلبية الطلب، وتغطية الآلاف من الهكتارات المزروعة التي تنتظر الحصاد. وهو ما أدى إلى جفاف المحاصيل ولا سيما في الأجواء الصيفية الحارقة لهذه المنطقة مما يزيد من احتمالية التعرض للحريق ومن أدنى سبب ممكن كأن يكون جراء شرارة ربما تتولد من محرك مركبة تسير بين هذه الحقول، أو بفعل فاعل.
الثاني هو تغليب المصلحة السياسية والعسكرية للأطراف المتصارعة على المصلحة الوطنية: فمنذ اندلاع الأزمة في سوريا تسابقت كل الأطراف للسيطرة على المناطق الاستراتيجية عسكرياً واقتصادياً وسياسياً لتقوية أوراقها في الضغط على الخصم دون أي مراعاة لطبيعة تلك المناطق واحتياجاتها.
ففي مواجهة الحرائق التي تعصف بالمنطقة الشرقية من سوريا اكتفى أطراف النزاع بإطلاق الاتهامات دون اتخاذ أية خطوات فعالة لمواجهة هذه الكارثة، وبحجج عدة أبرزها أن من يسيطر على تلك المنطقة لا يسمح بمرور أحد من الأطراف الأخرى وإن كان على شكل فرق دفاع مدني، خشية استغلال الأمر لزعزعة الاستقرار وتسييس الكارثة لصالحه. كما تتذرع الأطراف الغير مسيطرة على المنطقة بعدم وجود فائدة لها من تلك المحاصيل فلماذا تساعد الخصم في عملية إنقاذها وتساعد في تكوين ورقة ضغط اقتصادي ضدها؟ وما بين كل تلك الحجج والمبررات التي تضعها الأطراف المتنازعة بات السوريون وقوتهم لقمة سائغة للنار بعد أن كانوا لقمة لنار الحرب والحصار والدمار .
كل هذه الممارسات ما هي إلا حرب على أنقاض حرب قد تكون أشرس، فعلاوة على أن الحرائق تأكل اقتصاد سوريا وخبز مواطنيها، وتكشف العجز عن احتوائها فإنها تكشف الستار عن أن نيران الحرب مازالت في النفوس مستعرة بعيدة عن الإخماد، وأن البلاد ضائعة ما بين فصائل متصارعة متنازعة تغلّب مصالحها السيادية والعسكرية والسياسية على المصالح الوطنية والشعبية. وليس هناك أي مجال لاحتواء هذه النيران سواء التي تلتهم الحقول والخبز أو التي تلتهم القلوب والوطن بالحرب والدمار إلا بتقارب السوريين أنفسهم وإعلاء مصلحة الوطن والمواطن فوق كل مصلحة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة