الإسلامية المنطقية تقوم على العلم والدين معا، كما أنها تقوم على قيم التسامح ومبادئ الحوار الدولي.
كان ذلك المقهى أسطوريا إلى أبعد الحدود، ولربما كان المقهى الأشهر على مرّ التاريخ. ففي عام 1913 -قبل الحرب العالمية الأولى بعام واحد- كان يجلس كل من جوزيف ستالين وأودلف هتلر في مقهى واحد بمدينة فيينا. ففي كافيه سنترال -حسب بي بي سي- كان عدد من صنّاع القرن العشرين يحتسون القهوة. في الوقت نفسه كان في المقهى سيجموند فرويد، وكان فيه تروتسكي، وكذلك جوزيف تيتو.
كان فرويد عالم نفس شهير، وأما تيتو فقد كان مهندس سيارات يحاول شقَّ طريقه. وكان أودلف هتلر شابًّا في الرابعة والعشرين من عمره يعيش في مساكن الطلبة، ويبحث عن عمل.
بعد عام واحد تغيّر العالم، فقد اندلعت الحرب العالمية الأولى، وانهارت الإمبراطورية النمساوية المجرية، كما انهارت الإمبراطورية العثمانية والإمبراطورية الروسية، لقد نشأتْ إمبراطورية جديدة هي الاتحاد السوفيتي، ودخل العالم إلى الجغرافيا السياسية للقرن العشرين.
إن ستالين وهتلر اللذين التقيَا في مقهى فيينا 1913، التقيا بعد ثلاثين عاما في أكبر حربٍ في التاريخ، انتصر ستالين وانهزم هتلر، وبدأت حرب باردة ممتدّة بين واشنطن وموسكو.. لا تزال حتى اليوم.
إنّ الإسلامية المنطقية تقوم على العلم والدين معا، كما أنها تقوم على قيم التسامح ومبادئ الحوار الدولي. إنَّ المثلث الذي تنهض عليه «الإسلامية المنطقية» هو: العلم، والإيمان، والسلام.
إذا كان ذلك هو موجز مائة عام من السياسة، فإن آخرين كانوا يجتمعون في مقهى آخر في فيينا ليشكلّوا مائة عام من الفلسفة. إنهم جماعة فيينا التي ضمّت علماء فيزياء ورياضيات واقتصاد، واشتهر من بينهم الفيلسوف رودولف كارناب.. وتأسَّست على أثر أفكارهم مدرسة «الوضعية المنطقية» التي قامت بإلغاء ما وراء الطبيعة. لم تعترف المدرسة الجديدة إلّا بالطبيعة وقوانينها، فلا وجود إلّا للمنطق والرياضيات والفيزياء وكلّ ما يمكن إدراكه وتحديده وتطويره، أما كلّ الميتافيزيقا فهي برأيهم لا وجود لها، ولا يجب تثمينها أو الانشغال بها.
في العالم العربي وجدت الوضعية المنطقية مَن يؤمن بها ويضيف إليها. إنه الفيلسوف المصري الشهير زكي نجيب محمود.. وقد كان كتابه خرافة الميتافيزيقا هو امتداد لرؤية هذه المدرسة في حتميّة إنهاء الميتافيزيقا تماما، وعدم الإيمان أو البحث إلّا بما هو فيزيقي.. وفيزيقي فقط.
لم يقف الفيلسوف المصري طويلا عند الوضعية المنطقية، إذ سرعان ما قام بتعديل كتابه إلى موقف من الميتافيزيقا، ثم سار مشروعه الفكري في عقود تالية إلى دراسة الإسلام والعروبة.. وإلى التوفيق بين الروح والمادة، وبين الإسلام والحداثة. الوضعية المنطقية هي فلسفة لا دينية، هي ترى أن كلَّ الأديان خارج نطاق العلم، وكل المعرفة الدينية هي معرفة فارغة من أيّ معنى، هي تعبير عن مشاعر أو رغبات لا حقائق أو موجودات، وعلى ذلك فقد جعلت الوضعية المنطقية في الرياضيات والفيزياء وحدهما الحقيقة التي يمكن الثقة بها، والإيمان بوجودها. لقد فكّرتُ كثيرا في إمكانية صياغة مصطلح جديد باسم الإسلامية المنطقية. وقد قدَّمت المصطلح -للمرة الأولى- في محاضرةٍ لي في الجامعة الأمريكية بالقاهرة صيف 2011، وقد وجدتُ أنّه من المناسب أنْ أعود إليه من جديد. الإسلامية المنطقية تصلح أن تمثِّل اتجاها فكريا في القرن الحادي والعشرين على غرار جماعة فيينا في القرن العشرين. أسّست جماعة فيينا الوضعية المنطقية استنادا إلى المادة وإلغاءً للروح، قبولا للفيزياء وإلغاءً لما وراءها. وهنا تقوم الإسلامية المنطقية بأخذ المعايير الصارمة للعلم من الوضعيّة المنطقية، كما تأخذ منها تلك المكانة الساميّة للفيزياء والرياضيات اللتين هما عماد الحضارة المعاصرة، لكنها تختلف عنها في أنها لا تضع الروح في تناقضٍ مع العلم، كما أنها لا تخلق معادلةً صفريّة بين الدين والفيزياء.
لقد سادت العالم الإسلامي في حقبة ما بعد العصر الذهبي، وفي أحقاب الركود العثماني مدارس الحفظ من دون إضافة، والتكرار من دون إبداع. تحوّلت الحضارة العلمية في الإسلام إلى شروح على المتون، وشروح للشروح، ثم شروح لشروح الشروح.. وكانت تمضي عشرات السنين دون الخروج خطوة واحدة من دائرة الرتابة المعرفيّة والحفظ البليد. وقد أسهمتْ في حالة التدهور في العالم الإسلامي حالة الانهيار في مركز القيادة الفكرية في مصر، فقد أدّى الغزو العثماني لمصر إلى دخول القاهرة -العاصمة الفكرية للعالم الإسلامي- في أطول فترات نكبتها وانكسارها، وهي المرحلة التي امتدت طيلة ثلاثة قرون.. من القرن السادس عشر حتى القرن التاسع عشر. كانت تجربة محمد علي باشا هي ما صاغت الحداثة المصرية المعاصرة، وهي ما أنهتْ عصر الانحطاط العثماني. مضتْ مصر إلى المستقبل بقوةٍ وثبات، ونجحتْ في استعادة مجدها الإمبراطوري في سنوات محدودة. لكنّ نشأة حركات الإسلام السياسي في القرن العشرين سرعان ما أربكت خطاها.. أربكت الفكرة والحركة، السياسة والاقتصاد. كانت حركات الإسلام السياسي بمثابة الثورة المضادّة للمشروع الحضاري المصري، وهبط جدول نقاش المجتمع، على أثر ذلك، من أسئلة النهضة والحداثة إلى أسئلة سنوات الضعف وعصور الانهيار. كانت مصر على وشك الإفلات من الأخدود الحضاري التي تعثرت داخله، لولا أن قطع تحالف الاستعمار والتطرّف الانطلاق والصعود. أصبحت مفاهيم العلم والوطن في مهبّ الريح. لقد امتدت نتائج ذلك حتى القرن الحادي والعشرين، وفي أول برلمان بعد ثورة يناير 2011 رفضَ عدد من نواب الشعب في البرلمان احترام السلام الجمهوري، كما استقبل أعضاء لجنة التعليم والبحث العلمي عالم الكيمياء العالمي الدكتور أحمد زويل بالشتائم والسّباب، وطالب بعضهم بطرده من المجلس. الإسلامية المنطقية في تقديري هي اتجاه فكري يعقد الصلح الحتمي بين الفيزياء والإسلام، بين المسجد والحداثة، كما يجب أن يعمل على تفكيك وإلغاء الأسس الثقافيّة البلهاء لأعداء الحضارة، والحيلولة دون صعود السفهاء من الناس إلى سدّة القرار.. أو سلطة العقل.
إذا امتلكتْ أُمتنا الروح من دون المادة.. ستصبح أمّةً افتراضية لا وجود لها. وإذا ما امتلكت المادة من دون الروح ستصبح أمّةً من حَجَر.. لا خلاقَ لها. إذا كانت «الوضعية المنطقية» قد قامت على العلم ضد الدين، فإنّ الإسلامية المنطقية تقوم على العلم والدين معا، كما أنها تقوم على قيم التسامح ومبادئ الحوار الدولي. إنَّ المثلث الذي تنهض عليه «الإسلامية المنطقية» هو: العلم، والإيمان، والسلام.
نقلاً عن "الأهرام"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة