زايد الخير فهم مبكرا جدا أن التسامح قيمة تربوية يجب زرعها في الأجيال القادمة، وعلى هذا الأساس الثمين نشأ "عيال زايد".
قبل بضعة أيام دشن معالي الشيخ نهيان بن مبارك آل نهيان وزير التسامح بدولة الإمارات العربية المتحدة رسميا موقع كنيسة ودير جزيرة "صير بني ياس"، كأول موقع مسيحي يتم اكتشافه في الإمارات العربية المتحدة، وذلك بعد انتهاء عمليات الحفاظ على الموقع وتجهيزه من قبل دائرة الثقافة والسياحة في أبوظبي لاستقبال الوفود السياحية والزوار.
تدشين هذا الموقع الأثري، ومن ثم إتاحته للزوار مع المحافظة عليه أمر يكسب الإمارات زخما تسامحيا، وصيتا طيبا يتجاوز مردوده مئات الملايين التي تنفق على شركات العلاقات العامة حول العالم
وتمثل قصة هذا الكشف الأثري، ودلالات السعي إلى تطويره والاعتداد به، سردية التسامح الإماراتي المتجذر، لا من اليوم ولا الأمس ولا حتى قبل الأمس، بل منذ عقود طوال بعيدة ضاربة جذورها في قلب المجتمع الإماراتي المتسامح.
ولا يخفى على أحد أن منطقة الجزيرة العربية كانت مليئة بالقبائل المسيحية على تعدد مللها ونحللها، وقد كانت الغساسنة والمناذرة من تلك القبائل، الذين اطلعوا على كتابات العلامة اللبناني الأب لويس شيخو عن المسيحيين العرب، أو قرأوا كتابات الأب العلامة جورج قنواتي عن المسيحيين العرب ودورهم في الحضارة العربية، يدركون جيدا المساهمات التي قدمها هؤلاء عبر شعراء وكتاب فلاسفة ومفكرين. وقد أشار القرآن الكريم إلى بعض منهم تحديدا وهم "أصحاب الأخدود"، وعليه فإن الحديث عن مسيحيين عرب في شبه الجزيرة وقبل الاسلام أمر ليس بدعة أو قصة منحولة، بل هو تسلسل تاريخي لحركة الحياة، ودفع الله الناس بعضهم بعض.
غير أن السؤال المثير للتأمل والتوقف أمامه: "هل الكشف عن كنيسة ودير صير بني ياس أمر يختصم من سيادة وريادة الإسلام في شبه الجزيرة العربية وعلى الأراضي العربية، وعلى ذلك لم يكن من الواجب السماح بالإعلان عن هذا الكشف، أم أن الكشف في حد ذاته إضافة تنويرية لتاريخ عريق من حلقات الإنسانية السائرة على دروب الإيمان منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام؟
الشاهد أن السؤال المتقدم لم يقلق القيادة الإماراتية اليوم، تلك التي آمنت بالتسامح من حيث المبدأ والدستور، وقد كان من حظها أنها ورثت جذور هذا التسامح من "زايد الخير" رجل المودات والتسامح والصفح والقلب الكبير..
السؤال المحير والمقلق في واقع الأمر أقلق عام 1992 المكتشف الإنجليزي "بيتر هايلير" الذي كان عادة ما يصاحب الشيخ زايد رحمه الله في جولاته الاستكشافية في صحراء الإمارات، بحثا عن الجذور التاريخية للإنسان الإماراتي.
في تلك الأوقات اكتشف الرجل كنيسة وديرا بما تعني الكلمات، لا سيما أن الآثار الباقية تشير إلى تقسيم لجغرافية الكنيسة كما هي معروفة حتى الآن، وبنوع خاص في الطقوس الشرقية. وكان من الواضح أن هناك ديرا مقاما حولها، وهو أمر معروف للباحثين في الدراسات المسيحية في شبه الجزيرة العربية، حيث كانت هناك كنائس وأديرة وردت إشارات واضحة إليها وعنها في القرآن الكريم.
غير أن المكتشف الإنجليزي تردد في إخبار الشيخ زايد بالأمر، خوفاً من غضبه واعتباره أن الاكتشاف انتقاص من واقع وحاضر الإمارات التسامحي والتصالحي مرة واحدة؟
لاحظ الشيخ زايد الخير ما بدا على محيا الإنجليزي "بيتر" صباح اليوم التالي، ولم يستطع أن يكتم السر في صدره طويلا، فباح به للشيخ، الذي استغرب موقف المكتشف وبادره بالقول: "وما الذي يمنع أن يكون أجدادنا مسيحيين قبل الإسلام وأعطى الراحل الكبير توجيهاته بالحفاظ على المكان، واحترامه والعناية به.
الشاهد أن رؤية زايد الخير سبقت رؤية وأطروحة صدام الحضارات التي خرج بها على العالم عالم الاجتماع السياسي الأمريكي "صموئيل هنتنجتون" في مقاله الشهير في مجلة "الفورين آفيرز" عام 1993، الذي تحول إلى كتاب عام 1996.
وقد سبق موقفه التسامحي والتصالحي بعقد كامل انفجار أحاديث الغضب والكراهية التي واكبت أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول عام 2001، تلك التي ولدت على الأرض الدعوات إلى التسامح وإلى قبول الآخر.
فهم زايد الخير مبكرا جدا أن التسامح قيمة تربوية يجب زرعها في الأجيال القادمة، وعلى هذا الأساس الثمين نشأ "عيال زايد" نشأة تدرك ما للتسامح من عظمة خلاقة، لا سيما إذا جاء من طرف الكاظمين الغيظ، والعافين عن الناس.
"أمام البوابة الرئيسية لديوان ولي عهد أبوظبي، ما يلفت انتباه العابرين، ويدعوهم إلى التوقف والتأمل"، تسع منحوتات فنية أبدعها فنان فرنسي من أصول جزائرية (Guy Ferrer) في نهاية عام 2008. وقد أمر الشيخ محمد بحسه المرهف تجاه منظومة القيم المنشورة "بزرع" هذه المنحوتات البرونزية الفنية التسع أمام الديوان في رسالة إلى الناس.
تجسد هذه المنحوتات مصطلح التسامح، بمعناه المعروف باللغة الإنجليزية، تبدو كل منها تعبيراً رمزياً عن الحكمة والإيمان والسلام والتآخي، وتحمل خطاباً قوياً يعبر عن معنى القيم الإنسانية التي يحملها مفهوم التسامح، المرغوب في نشره وتعزيزه في مجتمع الإمارات، والمجتمعات العربية الأخرى.
هذه هي البذور التي غرسها زايد الخير، وهي التي قادت أبناءه من بعده لاستقبال بابا الكنيسة الرومانية الكاثوليكية في أول زيارة على مدى التاريخ لحبر روماني كاثوليكي لأرض الجزيرة العربية، ليس هذا فحسب، بل تقديم دولة التسامح والتصالح كافة التسهيلات لأن يقيم الرجل صاحب الرداء الأبيض صلاة القداس الخاصة بشعائر العالم المسيحي الكاثوليكي، وللمرة الأولى في حضور عشرات الآلاف وفي منظر سيسطره التاريخ بحروف من نور.
حين تكرس الإمارات حكومة وشعبا عام 2019 كعام للتسامح، فإنها تخلق فضاء واسعا من المودات، وما الأمم إلا مودات وشراكات أحلام تنمو وتترعرع في أجواء من الخير والتعاون.
من خلال تدشين موقع كنيسة ودير صير بني ياس، تعلن الإمارات للعالم أن هناك عالما آخر من الإسلام والمسلمين، غير عالم القاعدة وداعش وفتاوى الظلام التي لا هم لهم صباح مساء كل يوم إلا تكفير الآخر المختلف. إنها تفتح الأبواب أمام العالم ليرى إسلاما حنيفا، صادقا في تسامحه وتصالحه ومحبته مع شعوب العالم المسيحي كلها.
تدشين هذا الموقع الأثري، ومن ثم إتاحته للزوار مع المحافظة عليه أمر يكسب الإمارات زخما تسامحيا، وصيتا طيبا يتجاوز مردوده مئات الملايين التي تنفق على شركات العلاقات العامة حول العالم.
الخلاصة.. الإمارات عنوان للمودات في الحال والاستقبال.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة