تعيش القضية السورية اليوم مرحلة معقدة جداً للاتجاه بها إلى مسارات جديدةٍ من أجل إرساءِ حلٍّ دائمٍ لها، ووضع حد لمعاناة الشعب السوري الذي باتَ بالرمق الأخير اقتصادياً ومعيشياً وحياتياً.
أما التفاهمات الدولية والإقليمية فيشوبها الحذر والقلق؛ إذ تشهد الجبهات في الداخل السوري توتراً شديداً في منطقة وقف التصعيد الأخيرة في إدلب والتصريحات التركية المُشَدِّدة على أنَّ الخروج من سوريا ليس ممكناً، وهي تكثِّفُ تحركاتها على الحدود بينها وبين قوات سوريا الديمقراطية ملوّحةً بعملية جديدة، فهل هذه التوترات تقوّض جهود الحل وتُنذرُ باشتعال الجبهات أمْ هي علاماتٌ لبدء مرحلة جديدةٍ تتمخض عن حلول دائمة؟ للإجابة على هذا السؤال لا بدّ من قراءة الواقع المحلي والإقليمي والدولي:
أولاً- على الصعيد الداخلي: تعيش البلاد أزمة اقتصادية خانقة، ضيَّقت سُبل العيش على المواطن السوري في شتى المناطق، بالإضافة إلى انفلات السلاح بيد مجموعات متفرقة سواء في مناطق سيطرة الحكومة السورية أو مناطق قسد أو مناطق المعارضة المدعومة تركياً؛ فهذا الواقع الاقتصادي والأمني المعقّد يجعل خيار المواجهة العسكرية لجميع الأطراف كارثياً، وهي حقيقة تدركها جميع الأطراف على الأرض.
وعلى الرغم من ذلك تنشط حركة الحشود على الحدود بين هذه الأطراف؛ فـ"قسد" تحشد باتجاه دير الزور، والحكومة تعزز مواقعها على حدود إدلب، وتركيا تؤكّد بقاءها في سوريا وتسّرع تحركاتها على الحدود في منطقة وقف التصعيد في إدلب وعلى الحدود مع قسد، مما يزيد المشهد تعقيداً.
ثانياً- على الصعيد الإقليمي: على الرغم من كلّ هذه التوترات والحشود العسكرية والتصريحات القوية على الساحة السورية؛ إلا أنّ المنطقة تشهد تحركاتٍ جدية نحو التفاهم الشامل على القضايا الأمنية والسياسية والعسكرية في الإقليم العربي، بما يضمن إرساء السلام والأمن وحسن الجوار.
طبيعة هذه التفاهمات تفرض أنْ لا رغبة لدى أي دولة في الإقليم عربيةً كانت أو غير عربية في إشعال فتيل التوتر، لا سيّما وأنّ خارطة التوزع السياسي قد تغيرت؛ فالدول العربية بثقلها السياسي والاستراتيجي فتحت قنواتها مع الحكومة السورية من أجل إنهاء معاناة الشعب السوري، والدول الإقليمية تعي تماماً هذه الخطوة وحاجة الجميع لها من أجل حلحلة كل القضايا العالقة بالطرق الدبلوماسية والحوار، وهي فرصة لم تكن متاحةً على مدى أكثر من عقدٍ؛ فلا أحد إقليمياً يناسبه أو يرضيه اشتعال الأوضاع على الجبهات والعودة إلى العمل العسكري.
ثالثاً- على الصعيد الدولي: رُكنا هذا الصعيد فيما يخص القضية السورية هما الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا؛ وكلا الدولتان تدركان الأوضاع والأحداث العالمية المتسارعة التي لا تحتمل فتح الأبواب أمام صراعاتٍ جديدة، ولا سيما بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، والتوترات التي شهدتها روسيا مؤخراً بتمرد مجموعة (فاغنر).
فالولايات المتحدة تعلم أنّ أي ضغطٍ عسكري زائدٍ قد يدفع روسيا إلى تصعيد غير مسبوق يُدخل العالم في حرب كارثية الجميعُ بغنى عنها، وروسيا أيضاً لا ترغب بذلك وهي منشغلةٌ بجبهات القتال المشتعلة في أوكرانيا من جهة وترتيب الفوضى الداخلية من جهة أُخرى؛ فهي في غنى عن دخول صراعٍ مُنهكٍ آخر وعلى جبهاتٍ أُخرى، مما يجعل أنّ القراءة الصحيحة هي أنّ المجتمع الدولي بركنيه الأمريكي والروسي ومن ورائهم حلفائهم لا يحبذون ولا يناسبهم خيار فتح جبهاتٍ خامدة.
بعد كل ذلك لا مناصّ من الإقرار بأنّ هذه التحركات المنذرة بالتصعيد وتفاقم الأزمات السياسية والعسكرية والاقتصادية ناقوسُ خطرٍ قد يؤدي إلى الانزلاق في طرقات المواجهات الوعرة، إلا أنّ ذلكَ قد يحمل رسائل أُخرى لرسم خارطة طريق للحل بما يتناسب وأهداف كل طرف من الأطراف المختلفة على الأرض؛ فهذه التحركات قد لا ترقى إلى التصعيد الخطير الذي يؤدي إلى وأدِ جَنين الحلحلة إلا أنها ستزيد المشهد تعقيداً وتجعل المخاض عسيراً، الأمر الذي يُبشّر بالحلحلة من جهة وإسراع كل جهة معنية لتثبيت حدود مصالحها، ومن جهةٍ أُخرى ينذر بأنّ هذا الحل لن يكون سهلاً سلساً من دون مناوشات هنا وهناك تتناسب مع تقاطع المصالح بين الأطراف الفاعلة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة