العرب يأخذون زمام المبادرة في سوريا.. أطماع أردوغان تتبخر
التفاعلات العربية مع سوريا في الشهور الماضية، أدت إلى تجميد طموحات دول سعت إلى تمديد نفوذها السياسي وعلى رأسها تركيا
تبدي الدول العربية اهتماما خاصا بالأزمة السورية، وبخاصة "الإمارات- السعودية- مصر" إضافة إلى الأردن وموريتانيا والسودان على نحو انعكس في الزيارات الرسمية على مستوى القادة، ولقاءات الوفود الأمنية والسياسية.
وتتمثل أهداف أبوظبي والقاهرة والرياض، في الوصول إلى تسوية سلمية للأزمة، ومكافحة الجماعات الراديكالية التي وجدت في الفراغ الأمني السوري ملاذات آمنة إضافة إلى مكافحة الإرهاب العابر للحدود، والتصدي لتدفق الهجرة غير الشرعية.
وفي هذا السياق أعاد قطاع واسع من الدول العربية العلاقة السياسية مع دمشق، في الصدارة منها الإمارات والبحرين، وفي الطريق الكثير من الدول العربية الأخرى.
من جهتها أبدت الحكومة السورية ترحيبها بأي خطوة عربية إزاء عودة السفارات العربية إلى دمشق وتفعيل عملها من جديد، بعد سنوات من إغلاقها.
وفي 16 ديسمبر/كانون الأول الماضي كان الرئيس السوداني عمر البشير أول رئيس عربي يزور دمشق منذ العام 2011، ويلتقي بشار الأسد.
التفاعلات العربية مع سوريا في الشهور الماضية، أدت إلى تجميد طموحات دول سعت إلى تمديد نفوذها السياسي والجغرافي بتكريس تقطيع أوصال الإقليم العربي على مذبح المصالح، والانتماء الأيديولوجي، وفي الصدارة منها تركيا.
في هذا السياق أكد أنور قرقاش وزير الدولة للشؤون الخارجية الإماراتي، في تغريدة له عشية افتتاح السفارة الإماراتية في دمشق على أن "الدور العربي في سوريا أصبح أكثر ضرورة تجاه التغوّل الإقليمي الإيراني، والتركي، وتسعى الإمارات اليوم عبر حضورها في دمشق إلى تفعيل هذا الدور".
نجاح العالم العربي في استعادة سوريا إلى محيطها العربي، أدى إلى تغير توازنات القوى على الأرض لغير صالح تركيا، لاسيما بعد اتجاه الدول العربية، في الصدارة منها الإمارات، ومصر، وموريتانيا، والسودان، والأردن إلى رفع مستوى تعاونها السياسي، والدبلوماسي والاستخباراتي مع النظام السوري، وهو ما قد يقلص من فرص الوجود التركي، ونفوذه على الأراضي السورية.
- إعادة فتح سفارة الإمارات في سوريا.. بداية عودة دمشق للحضن العربي
- عودة سفارة الإمارات بسوريا خطوة مهمة للعرب
عودة الدور العربي في سوريا يقلص الدور التركي في مشاريع إعادة إعمار سوريا، خاصة مع تأكيد الإمارات والسعودية ودولة عربية أخرى على المساهمة بشكل كبير في إعمار البلاد.
وكانت السعودية قد قدمت في يوليو/تموز الماضي مساهمة بمبلغ 100 مليون دولار لصالح مشاريع إعادة استقرار مناطق في شمال شرق سوريا التي تقع اليوم تحت نفوذ الدولة السورية.
وتحتل سوريا مكانة خاصة في الذهنية التركية، لاعتبارات مختلفة لا تقتصر بطبيعة الحال على رفضها لسياسات النظام في التعامل مع الصراع، أول هذه الاعتبارات، السعي لتمكين مشروع التنظيمات الارهابية بعدما فشلت جهودها في القاهرة، وتونس، وليبيا.
وراهنت تركيا في بداية الأزمة في عام 2011 على الجماعات المسلحة المناوئة للأسد لتسهيل طموحاتها في السيطرة على شمال سوريا التي تعتبرها جزءا من حلم الخلافة.
وبرز التوجه الأيديولوجي الإخواني لحزب العدالة والتنمية الحاكم، مع ما يطلق عليه "الربيع العربي" كفرصة لأنقرة لإحياء أحلام عودة "دولة الخلافة"، وتجلى ذلك في تكرار الحديث عن "العثمانية الجديدة".
ويكفي هنا الإشارة إلى ما ذكره أحمد داود أوغلو وزير الخارجية عام 2010 في حوار مع "واشنطن بوست" من أن تركيا تسعى لكومنولث عثماني تتزعمه على غرار الكومنولث الإنجليزي، كما أعاد رئيس الحكومة حينها في يوليو 2012 رجب طيب أردوغان أسباب التدخل في الشأن الداخلي السوري إلى "مسؤوليات تاريخية" على تركيا كونها "حفيدة السلاجقة والعثمانيين".
ويرتبط الاعتبار الثاني، باستغلال الرئيس أردوغان الصراع في سوريا، وتداعياته السلبية على الأمن القومي التركي لمصلحة تحقيق أهداف آنية وضيقة، أهمها تكريس بقائه في المشهد، وإعادة تفصيله على مقاس طموحاته السياسية، وتجلى ذلك في تحجيم نفوذ المعارضة عبر اتهامه بعضها بالعمل مع كيانات إرهابية في سوريا، وبخاصة حزب الشعوب الديمقراطي الكردي، ومحاصرة الدور السياسي لبعضها، مثل حزب الشعب الجمهوري، بعدما سرب أحد نوابه مقطع فيديو يكشف تورط أجهزة الاستخبارات التركية في نقل أسلحة إلى الجماعات الراديكالية في سوريا في العام 2015.
مرحليا، نجح أردوغان في توظيف الأزمة السورية، لتصبح أحد مصادر تغذية طموحاته السياسية، وبرز ذلك في تحول البلاد إلى جهة النظام الرئاسي، تحت دعاوى ضعف النظام البرلماني في مجابهة المخاطر، والتحديات التي تمس الأمن القومي التركي.
في المقابل، استغلت تركيا الورقة الكردية للتمدد في الشمال السوري، تحت دعاوى محاربة الإرهاب الكردي، وسوقت تركيا تدخلها في سوريا باعتباره ضرورة ملحة سواء في عملية "درع الفرات" في أغسطس/آب 2016، أو عملية "غصن الزيتون" في يناير/كانون الثاني 2018، واعتبرتهما ضرورة ملحة لتحجيم المليشيات الكردية السورية، والتي تعتبرها امتدادًا لـ"حزب العمال الكردستاني"، الذي تصنفه أنقرة إرهابياً.
ثم جاء الدور العربي الجديد ليسهم في تمكين النظام السوري من استعادة زمام المبادرة، بشكل يمكن أن يدعم الموقع التفاوضي للأخير في أية مباحثات مقبلة من جهة، ويقلص في المقابل الحضور التركي والإيراني الذي يستهدف تحقيق أجندات مؤدلجة ومذهبية وطائفية
عودة الدور العربي في سوريا يمثل خسارة كبيرة لتركيا عبر تراجع الحضور الاقتصادي التركي في مناطق الشمال السوري، بعدما حققت الشركات التركية العاملة في سوريا، أرباح مالية هائلة بفعل إدارتها مشاريع إعادة تأهيل البنية التحية، حيث شاركت العديد من الشركات التركية في تنفيذ مشروعات إعادة تأهيل البنى التحتية بمدن شمال سوريا، وبخاصة في إعزاز والباب وجرابلس وتل رفعت وعفرين، مستغلة في ذلك غياب هياكل الدولة السورية، ومرتكزة فقط على إبرام صفقات تعاقدية مع مجالس محلية لأنقرة اليد الطولي في تشكيلها، وإدارة مهامها.
وقد لا تقتصر الخسائر التركية على ما سبق، فالأرجح أن الجهد التركي لكسب ثقة وولاء المجتمعات المحلية في هذه المدن السورية، بما يعمل على تثبيت نفوذها العسكري والاستراتيجي في هذه المناطق، قد يكون في مفترق طرق، في ظل رفض قطاعات سورية واسعة، وبخاصة في عفرين محاولات تتريك مناطق الشمال السوري، خاصة ذات الأغلبية الكردية، إضافة إلى دور أنقرة في إضعاف الهوية المحلية السورية في مدن الشمال السوري عبر تغذية، واسترجاع الأفكار، والقيم العثمانية، وأحلام دولة الخلافة، ولذلك فإن عودة سوريا إلى محيطها العربي، سيمثل حائط صد أمام المحاولات التركية لإعادة صياغة الوعي الجمعي، والهوياتي السوري.
تجدر الإشارة إلى أن تركيا سعت إلى تعزيز الروابط مع المجتمعات المحلية، ومجالس المدن بهدف توسيع نطاق استثماراتها في الشمال السوري، ودعم مشاركة الشركات التركية في مشاريع إعادة الإعمار في المستقبل، لكن الطموح التركي في إدارة إعمار سوريا بتولي الجانب الأكبر منها قد يكون محل جدل أو تراجع، لا سيما مع عودة القوى العربية، واستعادة الدولة السورية سيطرتها على مساحات معتبرة من أراضى الشمال السوري.
على صعيد متصل، فإن عودة دول الاعتدال العربي لسوريا جاءت في لحظة فارقة، حيث تزامن مع إعلان إدارة ترامب في نهاية ديسمبر/كانون الأول الماضي الانسحاب من سوريا، وهو ما اعتبرته تركيا فرصة ثمينة للقضاء على المليشيات الكردية في سوريا من جهة، وترسيخ الوجود التركي في سوريا على المدى الطويل عبر خطط وبرامج تتفق مع المصلحة التركية الخالصة.
التهليل التركي للانسحاب الأمريكي من سوريا لم يستمر طويلاً، بعد إعادة البيت الأبيض تقويم خططه بشأن الانسحاب الفوري من سوريا، وعدم التخلي عن "الحلفاء الأكراد".
وتحدث الرئيس ترامب عن انسحاب تدريجي، وأعاد التأكيد على أنه سيظل يلعب دور "الضامن" غير الرسمي للأكراد الذين عول على دورهم في سوريا ودعم استمرارهم في هذا الدور.
صحيح أن التراجع الأمريكي عن الانسحاب الفوري من سوريا، وإعادة التأكيد على العلاقة مع الأكراد، أغضب أنقرة، التي قالت إن "الإرهابيين لا يمكن أن يكونوا حلفاء للولايات المتحدة" في إشارة إلى الأكراد، إلا أن العودة العربية لدعم النظام السوري كانت أشد إيلاماً على تركيا، لأنها كسرت بامتياز عزلة النظام السوري، وزادت من زخم شرعيته التي طالما ظلت موضع تشكيك تركي، وأحد مداخل أنقرة ومفاتيحها للعب في الأراضي السورية.
على ضوء ذلك، يمكن القول إن حدود فعالية النظام التركي ونشاطه في سوريا سيشهد تراجعاً في الفترة المقبلة على ضوء التحولات الفاعلة على الأرض في السياسة العربية تجاه دعم، وتقوية النظام السوري.
وبرغم محاولات تركيا التظاهر بعدم إبداء أهمية لعودة العلاقات العربية السورية، والنقلة النوعية في مساراتها، وما قد يترتب عليها قريباً من عودة دمشق إلى مقعدها في جامعة الدول العربية إلا أن الواقع كشف عكس ذلك، فقد حرضت تركيا تنظيم الإخوان السوري على مهاجمة الدور العربي، وبخاصة الإمارات التي أعادت علاقتها الدبلوماسية مع دمشق، وأعلنت عزمها تقديم كافة أوجه الدعم للسلطة السورية.
ودفعت تركيا الجماعات السياسية، والعسكرية الموالية لها إلى ضرورة السعي لتشويه القرارات العربية الداعمة للنظام في دمشق، وتجلى ذلك في البيان الذي أصدرته جماعة "الإخوان المسلمين" السورية المدعومة من تركيا، والذي قالت فيه: "ملايين السوريين كانوا ينتظرون خطوة من هذه الدول إلى الأمام تساعد في التخلص من هذا النظام وجرائمه، وتطبيق القرارات الأممية التي تحقق الانتقال السياسي وبناء سورية المستقبل دون الأسد ونظامه".
على جانب آخر، ربما تسعى أنقرة إلى إطالة أمد الصراع في سوريا بالتزامن مع بدء عودة سوريا إلى محيطها العربي، للحفاظ على نفوذها العسكري والاقتصادي في سوريا في الفترة المقبلة، إلا أن هذه الخطوة قد تفقد فعاليتها في ظل استمرار الدور الأمريكي في سوريا من جهة، ودخول العالم العربي على خط الأزمة السورية عمليا، ما قد يقلص من مساعي تركيا لتعقيد الأزمة لمصلحة الدور العربي الذي يستهدف بناء فرص للوصول إلى تسوية للأزمة السورية.