المفارقة في كلّ ما يدور من تحرّكات وتكهّنات وتحليلات، تكمن في كونها واضحةً لكلّ الأطراف الفاعلة على ساحة الملف السوري إلّا للسوريين.
عدّة عوامل سياسية ودبلوماسية وأخرى اقتصادية في ظل واقع جيوسياسي متغير في المنطقة تؤكّد أنّ القضيّة السورية ومستقبل سوريا أصبح على طاولة الحسم السياسي، طاولة كانت وما زالت الإرادة السورية والمشروع السوري الموحد غائباً أو مغيّباً عنها، ولكن التعبير الأصح في هذا المقام هو أنه غائب وليس مغيباً، ومردّ صحة هذا التعبير هو أنّ الأطراف السورية مازالت على سياسة النكران والانفصال عن الواقع الحقيقي الذي يعتري قدراتها من جهةٍ، والتعنّت وعدم الانسجام الكامل بين مكوّنات كلّ طرفٍ بعد أنْ عملت التوازنات الدولية عملها في زعزعة البيت الداخلي لكلّ منها من جهةٍ ثانيةٍ.
ولكن على ما يبدو فإنّ القرار الدولي بالحسم للملف السوري قد اتُّخذ، وما زيارة الوفد الحكومي الروسي لدمشق منذ يومين إلا علامة فارقة للدلالة على منعطفٍ كبيرٍ وخطيرٍ على طريق فرض "الحلحلة"، لا سيما وأنّ كل النقاط التي أثيرت في الزيارة كانت – على غير العادة – بعيدة عن التطرق لأيّ شيء يخص الملف العسكري أو القوة العسكرية، وإنّما جلُّ الحديث كان عن التسوية السياسية وتسهيل عمل اللجنة الدستورية، والتحلي بالمرونة السياسية من أجل بدء إعادة الإعمار والخروج من مأزق العقوبات الاقتصادية الخانقة لإخراج سوريا من أزمتها.
في حقيقة الأمر إنّ هذه التصريحات العامة التي تمخضّت عن الزيارة ما هي إلّا عناوين عريضة وليست بجديدة، ولكن هل الأمر على هذه الصورة؟ وهل تحتاج هذه العنواين ذلك الوفد الروسي الضخم رفيع المستوى؟ بالطبع لا، فلو كانت هذه هي أجندات الزيارة لكان بإمكان روسيا نقلها لسوريا وللعالم أجمع بتصريحٍ روتينيٍّ من منبر وزارة الخارجية الروسية أو حتى من قاعدة حميميم إذا كان تصريحاً روسياً اعتيادياً، فالحقيقة هي أنّ الرسائل المبطنة أكبر بكثير من هذه التصريحات التي لم تخلُ هي أيضاً من جديدٍ بالنسبة لقَبول التمثيل الكردي في اللجنة الدستورية ككيان ممثّلٍ لشرق الفرات الذي يقع تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية المدعومة أمريكياً، بالإضافة إلى أنّ الوفدَ لم يتطرّق للواقع الميداني أو الحديث عن العسكرة ولا حتى الجبهة الأخيرة – فيما يخص "المعارضة" – على تخوم إدلب، وإنّما التركيز كان حول نقطتين هما: وجوب الإسراع بالحلّ السياسي وتسهيل عمل اللجنة الدستورية، والملف الاقتصادي الذي لوّح به الوفد الروسي للحكومة السورية على شكل مكاسب تتبع الملف السياسي؛ لترغيب الحكومة لتتحلّى بالمرونة اللازمة لبلوغ هذا الأمر الذي أصبح عبئاً ثقيلاً على سوريا وروسيا، لا سيما بعد تطبيق قانون "قيصر" الذي باتت معالمه تظهر جليّةً في المشهد السوري على الأرض وذلك على شكل أزمة خبز ومحروقات ودواء، عدا عن عجز القوة الشرائية للمواطن السوري وتوقف عجلة الاقتصاد والاستثمار، الأمر الذي وضع روسيا على محكّ الحل الدولي ووجوب التعامل بفقه الواقع على مبدأ التفاهمات الدولية لا الصدامات الدولية، ومحاولة التسليم بالأمر الواقع فيما يخص الوضع الراهن من تقاسم النفوذ بين روسيا وتركيا والولايات المتحدة.
على الرغم من أنه لن يكون هناك حسمٌ في الأشهر القليلة القادمة بسبب الترقب لما سيسفر عنه السباق الرئاسي الأمريكي الذي يكاد يكون محيراً بالنسبة للأطراف الدولية الفاعلة التي تنظر إليه وكأنه معادلة صعبة لا يمكن التكّهن بمآلاتها، فروسيا ربما تحاول الإسراع في التوصل لمسودة حلّ ضمن ولاية "دونالد ترامب"، تحسباً لما سيؤول عليه الأمر إذا ما كسب السباق "جو بايدن" الحانق على روسيا والذي يتهم "ترامب" بالتراخي على الساحة السورية، كما أنّ الأتراك يترقبون نتيجة هذه الانتخابات بحرارة أيضا.
المفارقة في كلّ ما يدور من تحرّكات وتكهّنات وتحليلات تكمن في كونها واضحةً لكلّ الأطراف الفاعلة على ساحة الملف السوري إلّا للسوريين الذين لا يتعاطون مع الأمر بالجدية الكافية أو بما تقتضيه هذه المرحلة الحساسة التي قد ينتج عنها ما يغيّر وجه سوريا الجغرافي والسياسي إلى الأبد، سواء بتحويلها إلى فيدراليات أو مناطق نفوذ دولية تجعلها محتلة من أطرافٍ عدّة، ليصبح السوريون اليوم وجهاً لوجه أمام مصيرهم المحتوم وهو "سوريا جديدة"، سوريا تراعي كل المصالح الدولية عدا المصلحة السورية، السوريون اليوم أمام مرحلةٍ خطيرة، ولا مبالغة إنْ قلنا بأنهم أمام فرصتهم الأخيرة لقلب الطاولة على الجميع لصالح سوريا أرضاً وشعباً، وهو الذي لا يمكن له أنْ يحدث دون تحرّكٍ سريعٍ على صورة انقلابٍ سياسي مفاجئ لكلّ الأطراف الدولية لإنجاز تفاهمٍ سوريٍّ سوريّ جادٍّ وحقيقيٍّ وواقعيٍّ بين كلّ الأطراف دون استثناء، إنْ كانوا حقاً يبحثون عن سوريا للسوريين.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة