أي محاولة لتشخيص واقع سوريا الراهن، بشقيه الداخلي والخارجي، وبتجرد، لا بد أن تصطدم بحقائق باتت ماثلة ولا يجوز لعاقل القفز فوقها أو التقليل من تأثير وجودها على حاضر البلاد ومستقبلها.
خصوصا بعد أن أصبحت كثيرا من هذه الحقائق واقعا متشكلا على الأرض، بعضها واضحة الملامح وإن حاولت التخفي خلف ستار، وبعضها في طور الإفصاح عن معالمها، وتكاد أن تكتسب صفة مستقلة بحد ذاتها، إضافة إلى ذلك ثمة معطيات طارئة ليست ثابتة ولا نهائية، بل تبدو قابلة للتبدل والتغير تبعا للمؤثرات التي أسهمت في ظهورها، حجزت هي الأخرى حيزا في المشهد العام لسوريا.
تتجلى لوحة سوريا اليوم بألوان وأشكال مغايرة تماما لما كانت عليه قبل 2011، وفي بعض المواضع تبدو متنافرة حد القطيعة، وبدا أن السياق الداخلي ما هو إلا امتداد للعامل الخارجي بصيغه المختلفة، تفاهما أو تناحرا أو صراعا على مصالح استراتيجية لا تشكل سوريا على حلبته سوى محطة إضافية للمنازلة، كما هو الحال بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية، وفي بعض السياقات منحَ الواقعُ الداخلي السوري الناشئ هامشاً لقوى أخرى موجودة على الأرض، مثل تركيا وروسيا، للقيام بعملية تَخَادم متبادل، ترتقي في بعض المنعطفات إلى حدود التواطؤ، تعبيرا عن مصالح ظرفية حكمت سير التفاهمات بينهما رغم الافتراق المبدئي بين الدولتين من حيث مقاربة كل منهما للأزمة، وأساليب معالجتها، والأهداف التي يسعى إلى تحقيقها كل طرف، في حين يتجلى الوجود الإيراني بمختلف أشكاله متداخلاً ومتشابكاً ومتبايناً في الآن ذاته مع أنقرة وموسكو، ومتصادما مع واشنطن، وغالبا ما يكون تجسيدا لأهداف أبعد من الصورة المعلنة، وهذا كله ليس بالأمر المستحدث أو الطارئ في سياق الصراعات الدولية على المكانة والمصالح والنفوذ بين القوى، خصوصا عندما تتوفر ساحة مرشحة لخوض المبارزات بينهم مثل سوريا.
ظلت سوريا منذ استقلالها عام 1946 تدور في فلك حركة الرياح السياسية، العربية والإقليمية والدولية التي تهب على المنطقة، وتحولت بحكم موقعها الجيوسياسي إلى ما يشبه الممر الإجباري لعبور تلك الريح العاتية في معظم الأحيان، وفي خضم مخاضاتها العسيرة تلك أفرزت تكتلات وقوى وأحزاباً عبّر بعضها من خلال منطلقاته وسياساته وتوجهاته عن اتجاهات السياسات الإقليمية والدولية، وعن تياراتها المتناحرة، فتبدّت الأجسام الحزبية والسياسية، أو الكثير منها، على شكل مرآة عاكسة لمصالح دول خارجية، وصدى لرغباتها وأهدافها، مما جعل البلاد أشبه بميدان نزال للقوى الأخرى بلاعبين محليين كما هو الحال اليوم.
الظروف الموضوعية التي أسهمت في تشكيل المشهد السوري الأول غداة الاستقلال منتصف أربعينيات القرن الماضي انبثقت من حركة التحرر في معظم البلدان العربية في المشرق وتفاعلت معها تأثراً وتأثيراً، إضافة إلى نتائج الحرب العالمية الثانية عام 1945 وخروج القوى الاستعمارية التقليدية منهكة، منها فرنسا التي احتلت سوريا لعقدين ونصف تقريباً. وقد اتسمت حقبة ما بعد الاحتلال الفرنسي وبداية مسيرة التحرر الوطني بغزارة إنتاج الأفكار السياسية، وتَشَكُّلِ القوى الحزبية في سوريا، وكان لها الصدارة في كلتا السمتين، الأفكار السياسية، وتشكيل الأحزاب وتعدد مرجعياتها وتنوع أيديولوجياتها.
وبقدر ما كانت تلك السمتان ميزةً سورية فقد استبطنت تياراتُها، وهي في طريق سعيها نحو السلطة، مشاريع تفتقر إلى مقومات جامعة تحت عباءة وطنية واحدة، فاستُدرِجت القوى الحزبية التي كانت تعبر عن اتجاهات سياسية متعددة، وتعكس تناقضات بعضها ونهجها ورؤاها المتعلقة بمسار البلد وخياراته السياسية والاقتصادية، إلى ساحات تنافس وصراع انعكست بشكل مباشر على الاستقرار السياسي في البلاد من طرف، وعلى علاقاتها مع دول جوارها العربي من طرف آخر، ومع ذلك لم تتعرض البلاد طيلة تلك السنين وتموجاتها الحادة لتهديد وجودي يمس كيانها السياسي والاجتماعي والجغرافي وتطال سيادتها واستقلالها مثلما تتعرض له اليوم.
أمام هذا المشهد غير المتجانس في بعض زواياه، والمتصادم في زوايا أخرى، يصبح الحديث عن حل للأزمة السورية مؤجلا على أقل تقدير، إن لم يكن مستبعدا في المدى المنظور إلى حين تتبلور تسويات بين القوى الكبرى الدولية والإقليمية الفاعلة على الأرض السورية، التي هي أساسا في حال اشتباك فعلي وغير مباشر في أوكرانيا، وفي وضعية ترقب وتأهب على خطوط التماس في سوريا، ليبقى الأمل معقودا على الخيار العربي الذي استهلته دولة الإمارات العربية المتحدة، وفتحت به طريق العمل العربي المشترك لسوريا، ومن أجل سوريا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة