فرضت الجغرافيا السورية قرارها على روسيا وتركيا بالتجاور القسري، خصمي الحرب الباردة على مدار عقود. شكلت البوابة السورية، وتحديدا منذ خريف 2015،
وهو العام الذي انخرطت فيه روسيا عسكريا وميدانيا وسياسيا في الحدث السوري؛ فرصةً لتلاقي المصالح بين الطرفين بعد مد وجزر لفترة طويلة.
المحطات العديدة والمنعطفات الكثيرة التي مرت بها علاقاتهما على الساحة السورية ميدانياً وسياسياً، والرؤى والتصورات المتناقضة لكل منهما في مقاربة الواقع السوري وتطوراته ومخرجاته، أوحت في أغلب الأحيان بأن ثمة صداماً بين القوتين على الأرض السورية لا بد أن يحدث، وتجلت أولى إشاراته في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2015، أي بعد التدخل الروسي بأقل من شهرين، عندما أسقطت تركيا طائرة حربية روسية شمال غرب سوريا بحجة انتهاكها المجال الجوي التركي، وهو ما نفته حينها موسكو مما أشاع مناخاً من التوتر والترقب حول الاحتمالات التي قد تسلكها الأزمة.
لكن ما حدث هو العكس تماماً؛ إذ استغل الجانبان الحادثة وانهمك كل منهما في ترتيب أوراقه وحسابات مصالحه بحثا عن عوائد إيجابية. جاءت محاولة الانقلاب الفاشلة ضد الرئيس أردوغان في يوليو/تموز 2016 لتشكل رافعة قوية لتعميق علاقات البلدين ولتعزيز علاقات الرئيسين الروسي والتركي على الصعيد الشخصي بعد إعلان بوتين دعمه لنظيره التركي.
التقط الطرفان ملامح المكاسب السياسية لكل دولة في ضوء تحولات ومتغيرات دولية تشي بإمكانية بناء تحالفات مغايرة لما كانت راسخة عليه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وتقاطعت مصالح استراتيجية بينهما سمحت بشراكات بعيدة المدى مثل السياحة الروسية في تركيا ومردودها الضخم، وبناء المفاعل النووي السلمي من قبل روسيا لتركيا، وتوريدات الغاز الروسي المسال، مقابل تفاهمات تركيا مع روسيا في موضوع العقوبات الأمريكية والغربية.
كل ذلك دون التنازل عن ركائز أساسية متجذرة؛ فتركيا العضو في حلف الشمال الأطلسي ليست في وارد مغادرة حاضنتها الناتوية، وروسيا لن تتنازل تحت أي ظرف إقليمي أو دولي عن نهجها واستراتيجيتها لكسر هيمنة القطب الواحد متمثلاً بالولايات المتحدة الأمريكية ومن خلفها الغرب.
الأهم في هذا السياق برز في السعي الحثيث من جانب أنقرة وموسكو لتفعيل خطوط التلاقي والتعاون في قضايا ذات طابع دولي انطلاقا من أهداف تكتيكية وأخرى استراتيجية مشتركة أملتها بطريقة أو بأخرى تفاعلات الوضع السوري، وما فرضه من تحديات عليهما رغم تمركزهما في خندقين متجابهين.
فالأتراك وهم يصارعون من أجل الحصول على عضوية الاتحاد الأوروبي منذ عقود، وجدوا في تطوير العلاقات مع روسيا سياسيا وعسكريا -كما حدث بصفقة صواريخ S 400، وفي استمالتها ولو نسبيا- رايةً يلوحون بها في وجه الأطلسيين والغرب عموما وواشنطن بشكل خاص، وللقول بأن ثمة بدائل لديها يمكن أن تقلص خسائرها في حال واصل الغرب إدارة ظهره لمطالبها ورغباتها، وأوصد أبوابه أمام طموحاتها، والروس، وهم يخوضون صراعا واسعا ضد الهيمنة الأمريكية الأطلسية للمحافظة على مكانتهم كندٍّ قطبي، التقطوا فرصة سانحة غير مسبوقة لاختراق أسوار جدار حلف الناتو ولو معنوياً، وبلورة تفاهمات مع تركيا تتعلق بالشأن السوري على أن تتوسع مستقبلا نحو شراكات استراتيجية.
قبل ثماني سنوات وفّرت الساحةُ السورية وأحداثُها سبل الانفراج في علاقات البلدين، غير أن هذه الساحة تبدو اليوم مرشحة لدور معاكس، وربما لمزيد من التسخين بينهما في سياقات متعددة سياسية وميدانية. في البداية كانت معيارا للتفاهمات ومؤشرا أوليا للاتفاق، لكن عوامل التقارب تلك تبدو ذاتها وقد اتخذت في الآونة الأخيرة شكلا مغايراً وقد تتحول إلى أسباب تباين، إن لم نقل بدايات خصومة فعلية؛ وكذلك الحرب الروسية الأوكرانية في بدايتها أعطت الدولتين هامشا ودورا متبادلا ومؤثرا حين أثمرت "دبلوماسية القمح" اتفاق الرئيسين الروسي والتركي عام 2022 على إعادة تصدير القمح إلى الأسواق العالمية بإدارة تركية استنادا إلى الثقة التي تم بناؤها بينهما خلال إدارة الملف السوري.
الحبل بينهما مشدود وكأنه شعرة معاوية، فلا التفريط في طرف الحبل وارد من قبل أحدهما، ولا الإفراط في شدّه مفيد لأي طرف. لأنقرة حساباتها في سوريا وقد تتقاطع مع موسكو عند بعضها وحول أساليب معالجة بعضها الآخر، لكن المسألة مختلفة في أوكرانيا لأهداف تركية وأطلسية.
ولموسكو حساباتها في سوريا مرتبطة بترتيب أوراق البيت السوري عبر التفاهم مع أنقرة بحكم الواقع والضرورة، وفي أوكرانيا لها حسابات متعلقة بصراعها الواسع مع واشنطن ومن خلفها دول حلف شمال الأطلسي وتحديدا ما يتعلق بتفعيل اتفاقية تصدير الحبوب؛ فالتشدد الروسي في شروط تفعيل اتفاقية تصدير الحبوب مبعثه أبعد من تعطيل الدور التركي؛ لأن موسكو تريد ممارسة الضغط على الاقتصادات الغربية من ناحية، وعودة منتجاتها إلى الأسواق العالمية مجددا من ناحية ثانية تزامنا مع رفع العقوبات عنها.
يبدو أن سياسة التوازن التي انتهجها أردوغان بين روسيا والغرب خلال السنوات القليلة الماضية قد وصلت إلى محطتها الأخيرة، وبالتالي لا بد من الاختيار بين الضفتين، وتلمس أعباء القرار ومزاياه أيا كانت مساراته من سوريا إلى أوكرانيا إلى آسيا الوسطى وصولا إلى الغرب.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة