مهما كان الدافع وراء هذا التفاوض "الكردي التركي" فإنه حبل من هواء يتعلق الأكراد به ليدخلهم تحت الوصاية الخارجية
ما إن أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب عن عزمه على سحب القوات الأمريكية من سوريا، حتى اختلطت الأوراق في يد جميع الأطراف الفاعلة في القضية السورية، وكان النصيب الأكبر من هذا التخبط على الجانب الكردي المتمثل بقوات سوريا الديمقراطية (قسد) المدعومة من واشنطن بشكل مباشر سياسياً ومالياً وعسكرياً؛ الأمر الذي دفع قادة هذا الفصيل إلى المسارعة في انتقاد القرار وتكثيف الجولات والمؤتمرات والزيارات لعواصم العالم بحثاً عن طوق نجاة، من فرنسا إلى ألمانيا إلى دول الاتحاد الأوروبي عموماً، إلى التفاوض وتكثيف اللقاءات مع الحكومة السورية والجانب الروسي، وحتى العدو اللدود الذي لا يقبل بأقل من القضاء على كل ما يتصل بتنظيم كردي.. ألا وهو تركيا.
مهما كان الدافع وراء هذا التفاوض "الكردي التركي" فإنه حبل من هواء يتعلق الأكراد به ليدخلهم تحت الوصاية الخارجية أولاً وعزلهم عن داخلهم السوري بكل أطرافه وفرقائه ثانياً، وخطوة للعب بالنار أو الأكل مع الشيطان
إن المحادثات والمفاوضات بين الكرد والدولة السورية ليست أمراً جديداً، بل حتى في أكثر أيام القوة والتمتع بالدعم الأمريكي الواسع للأكراد كانت الأبواب بين دمشق والأكراد مفتوحة، والمفاوضات جارية في قاعدة حميميم بوساطة مباشرة من روسيا، وهذا أمر لا بدّ منه للطرفين، فهم في نهاية المطاف قوى سورية على أرض سورية مهما تباينت التوجهات واختلفت السياسات، أما الجديد في القضية هو ما صرحت به "إلهام أحمد" رئيسة الهيئة التنفيذية لمجلس سوريا الديمقراطية عقب لقائها الرئيس الأمريكي في البيت الأبيض "من أنه لا مشكلة لدى الأكراد في مفاوضة الأتراك وإنهاء الصراع"، وهذا التصريح تكتنفه العديد من إشارات الاستفهام والكثير من القراءات.. فما هذه القراءات؟
أولاً: قد تكون المفاوضات السورية الكردية وصلت إلى طريق مسدودة، ولم يستطع الأكراد الوصول إلى تحقيق شيء من مطالبهم، لا سيما بعد الضعف السياسي والعسكري الذي أصابهم نتيجة الانسحاب الأمريكي الذي جعل (قسد) الطرف الأضعف بين الفاعلين، ففقد الأكراد الكثير من الأوراق التفاوضية التي تقوي موقفهم، مما حدا بهم إلى نظرية (الهروب إلى الأمام) والتفاوض مع العدو مباشرة (تركيا)، بعد أن فشلوا في التقارب مع دمشق لمساندتهم على ردع العدو المشترك، بما يضمن المكتسبات الكردية وطموحاتهم في المنطقة التي يسيطرون عليها، وفي الواقع لا تقبل دمشق بغير أن تكون هي صاحبة السيادة على كامل الأرض ولن تخوض صراعاً لا يحقق لها ذلك.
ثانياً: قد يكون الدافع لهذا التفاوض "الكردي التركي" بعد أن فشلت المفاوضات الكردية السورية أن الأكراد يمكن أن يتم محاصرتهم في زاوية ضيقة جداً، في حال حدث الصدام بين الكرد وتركيا، وهم الذين جربوا مثل هذه الصدامات في عمليتي درع الفرات وغصن الزيتون التي نفذتهما حكومة الرئيس التركي أردوغان ضد الأكراد وتحت الدعم الأمريكي المباشر لهم، ولكن أمريكا خذلتهم وتركتهم يواجهون ضربات الجيش التركي وحدهم حتى دحرهم ونكّل بهم، وفي ظل المعطيات الموجودة والواقع المفروض فنتيجة مثل هذا الصدام ستكون باهظة الثمن، وليس أمام الأكراد أي خيار سوى محاولة الخروج من المأزق بأقل الخسائر الممكنة، أملاً في أن تكون أنقرة راغبة في تسوية الأزمة دون اللجوء للصدام المباشر الذي يمكن أن يسبب لها إحراجاً سياسياً ودبلوماسياً داخلياً وخارجياً، فيمكن -كما يظن الكرد- أن تضمن تركيا وجودهم مقابل تجنب المواجهة العسكرية.
ثالثاً: وهو السبب الأكثر جدلاً وتعقيداً وخلطاً للأوراق، وهو أن يكون هذا الأمر طلباً أمريكياً، فقد صرحت "إلهام أحمد" بإمكانية التفاوض وضرورة تسوية الأمور مع الجانب التركي عقب زيارتها للبيت الأبيض مباشرة، وفي ذلك إشارة إلى أن أمريكا سحبت يدها من يد الأكراد، إلا أنها لم تتخلَّ عنهم لتسلمهم لأنقرة وتُبعدهم عن دمشق، والحيلولة دون تسوية سورية-سورية، وإبقاء الملف السوري ملف أجندات خارجية، ولإطلاق يد تركيا في سوريا لتكون بديلاً للولايات المتحدة في صفقة جديدة من صفقات بيع الحلفاء المعروفة عن السياسة الأمريكية، ولتدخل المنطقة في أزمة جديدة وصراع جديد يسهم في كل شيء سوى استقرار سوريا وتسوية أزمتها.
مهما كان الدافع وراء هذا التفاوض "الكردي التركي" فإنه حبل من هواء يتعلق الأكراد به ليدخلهم تحت الوصاية الخارجية أولاً وعزلهم عن داخلهم السوري بكل أطرافه وفرقائه ثانياً، وخطوة للعب بالنار أو الأكل مع الشيطان، وفي المثل الإنجليزي "من يأكل مع الشيطان يجب أن يمتلك ملعقة طويلة" ولا ملعقة للأكراد مع حكومة أردوغان التي لم تطعم مواطنيها من الأكراد إلا التهميش، وهي التي تسعى إلى السيطرة على شمال سوريا كاملاً، تحت مسميات عدة من محاربة الإرهاب إلى المناطق الآمنة، أما بالنسبة للأكراد في هذه المعادلة فهم جزء من الصفقة لا طرفاً فيها ولا يملكون إلا ورقة الصدام -وهم وحيدون دون أي دعم- وعند المواجهة سيتحتم عليهم الاستماتة في صراع قد يكون وخيم العواقب ويؤدي إلى تهاوي مشروعهم غير الانفصالي.. حسب زعمهم، وهو المشروع الذي ترفضه وتحاربه تركيا تحت أي مسمى.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة