2019.. عام "التحول" في الأزمة السورية
خريطة سوريا في 2019 سترسمها توازنات القوى في ضوء ملء الفراغ الأمريكي، وهو ما سيلقي بتداعياته على المسار القادم لعملية التسوية.
تنعطف الأزمة السورية باتجاه "تحولات" رئيسية في عام 2019، في ظل العديد من المتغيرات التي استهل بها العام أجندته العسكرية والسياسية على نحو سيعيد هيكلة الأزمة بشكل عام.
فهناك ثلاث قضايا رئيسية - على الأقل- من المتوقع أن تستغرق العام الجديد، الأولى تتعلق بمتغيرات موازين القوى التي سيعاد تشكلها في ضوء الانسحاب العسكري الأمريكي، والثانية تتعلق بآفاق عملية التسوية المتعثرة خاصة مع تولي المبعوث الأممي الرابع جيير بيدرسن خلفاً لـ"ستيفان دي ميستورا" وما سيقدمه في هذا السياق.
أما القضية الثالثة فهي إمكانيات عودة سوريا إلى الحاضنة العربية مع تصاعد الدعوات التي اقترنت بعدد من التحركات في هذا السياق، والتي بدأها الرئيس السوادني عمر البشير بزيارة دمشق، ثم الخطوة الإماراتية باستعادة علاقتها الدبلوماسية مع دمشق، تلتها الخطوة البحرينية لاستعادة سوريا إلى الحاضنة العربية.
ومن اللافت أن المحركات الجديدة انطلقت بالتزامن مع حلول نهاية 2018، وبالتالي قد تنعكس آثارها جملة على المشهد القادم حتى ولو بنسب متفاوتة سيتحكم فيها مستوى التفاعلات السياسية والأمنية ومدى التشابك بين هذه القضايا وبقية التطورات الأخرى في مختلف دوائر الأزمة.
فعلى سبيل المثال خريطة سوريا في 2019 سترسمها توازنات القوى في ضوء ملء الفراغ الأمريكي من شرق الفرات، والتي تميل لصالح روسيا وحلفائها الإقليميين والمحليين، وهو ما سيلقي بتداعياته على المسار القادم لعملية التسوية وإلى أي مدى ستنعكس أيضاً توازنات القوى على الأرض على أدوار أطراف الصراع ومن ثم إعادة هندسة الأوزان السياسية أيضاً.
وهناك ارتباط أيضاً بين محصلة هذه التفاعلات وبين مقاربة العلاقة بين سوريا والعودة للحاضنة العربية، ومن الواضح أنها سترتهن إلى حد كبير بطبيعة الانتشار الإيراني في سوريا مستقبلاً ونمط وشكل هذا الوجود جيوسياسياً على الخريطة الجديدة، ومن جانب آخر سترتبط بديناميكيات التسوية المقبلة والقوى المنخرطة فيها.
التفاعلات العسكرية وآثارها السياسية
خريطة الانتشار الجديدة: ستتبلور في ضوء الانسحاب الأمريكي في غضون الربع الأول من عام 2019، وباستثناء تركيا التي قامت بعملية تموضع استباقي على الخريطة الجديدة بإزاحة الانتشار الكردي - الأمريكي إلى العمق في إطار الاستعدادات لعملية "درع الفرات".
وأصبحت تركيا تستحوذ على شريط حدودي مسلح بطول يقدر 400 كم مع عمق يصل إلى 30 كم، وهذه المساحة تخصم من مساحة الانتشار الكردي التي كانت تقدر بنحو 28% من المساحة الكلية لسوريا حتى نهاية عام 2018.
بل من المتصور أن باقي المساحة ستضاف بشكل رئيسي إلى مساحة سيطرة حلفاء النظام السوري، والتي كانت قد ثبتت خلال الربع الأخير من العام الماضي عند أقل من 60% لصالح النظام وأقل من 10% لصالح المعارضة. وأيضاً في مقابل الانتشار الحدودي في الشمال لصالح تركيا لبناء منطقة عازلة لمواجهة الأكراد.
ومن المحتمل استحواذ النظام السوري وإيران على الحدود الجنوبية مع ثقل إيراني أكثر بطول الحدود لإزالة المعوقات التي واجهها المشروع الإيراني الذي يستهدف الوصول إلى شرق المتوسط عبر اختراق دول عربية هي: العراق وسوريا، وهو طموح لطالما سعت إليه طهران خلال السنوات الماضية، والتي كانت قاعدة "التنف" الأمريكية تمثل عقبة في طريق تحقيقه.
أما روسيا وهي مهندس موازين القوى، ستتولى بدروها عملية هندسة موازين القوى الجديدة في الربع الثاني من عام 2019، في ظل طبيعة علاقتها بجميع الأطراف الإقليمية والمحلية حالياً، لكنها ستواجه العديد من التحديات.
ومن هذه التحديات على سبيل المثال التعامل مع طبيعة الانتشار التركي شمال سوريا، وفى المقابل مراعاة الانفتاح على الأكراد خاصة في ظل مساعي قوات سوريا الديمقراطية "قسد" للبحث عن بديل للدعم الأمريكي.
وبما أن فرنسا المرشحة لأن ترث نسبياً الموقع الأمريكي لكنها لن تمثل البديل الاستراتيجي المناسب، فمن المؤكد أن روسيا ستعمل على احتواء الأكراد في إطار مقاربة حلفائها (إيران وروسيا والنظام) محل التوافق بعدم السماح بتقسيم سوريا.
وفى أفضل الأحوال التي قد يشهدها عام 2019 الاتجاه لإبرام صفقة كردية مع النظام تسمح بإقامة منطقة "حكم ذاتي" في إطار "محدود" مستقبلاً على غرار الحالة العراقية.
لكن لا يبدو هذا المشهد سلساً للدرجة التي يمكن بها ترتيب الأوضاع بسهولة فى سوريا، إذ أن هناك العديد من التحديات التي قد تبقى على نمط من الصراعات والنزاعات في سوريا.
ومن هذه التحديات على سبيل المثال: صحوة داعش ومساعيه لإعادة التموضع مجدداً على الخريطة السورية، فالحديث عن هزيمة داعش العسكرية في الرقة لا تعني نهاية التنظيم، بل على العكس من ذلك من المتوقع أن يعيد التنظيم تموضعه في شرق الفرات مع انطلاقات من بلدة "هجين" شرقي دير الزور التي تمثل بؤرة تمركز التنظيم، وسط تقديرات متفاوتة حول عدد عناصره في سوريا، والتي تتراوح بين 5- 15 ألف عنصر.
ووفقاً لدراسة لمعهد دراسات الحرب isw فإن التنظيم قادر على "الاستشفاء" مرة أخرى، والقدرة على تهديد الترتيبات المرتقبة شرق الفرات، بالنظر إلى هامش تحركاته على محاور عديدة فى الصحراء السورية الممتدة من البوكمال شرقي دير الزور وصولاً إلى البادية الشرقية للسويداء جنوبي سوريا.
وربما يشكل هذا الأمر مدخلاً لتحالف ثلاثي بين النظام –إيران – الأكراد، وهو ما قد يشكل أزمة بين طهران وأنقرة، إلا في حالة التركيز على مناطق وجود داعش فقط.
إسرائيل والتمدد الإيراني: يفرض الانسحاب الأمريكي على إسرائيل هامشاً أوسع للانخراط على الساحة السورية مقابل تمدد إيران شرق سوريا، وهو سبب كافٍ لعودة إسرائيل مرة أخرى إلى الساحة السورية، بعد أن كانت قد اتجهت صوب لبنان، خلال الفترة الأخيرة، مقترناً بنقل قدراته العسكرية النوعية، ما يتحمل معه العودة ثانية إلى قواعد الاشتباك السابقة لترتيبات أمن الجنوب السوري أو محاولة لصوغ ترتيبات أمنية جديدة برعاية روسية على غرار اتفاق درعا تستهدف نمط الوجود الإيراني وليس طبيعة الانتشار فقط.
استنساخ "إدلب" شرقاً: تعمل تركيا على فتح المجال لقوات المعارضة السورية المسلحة، للعب دور في شرق الفرات، حيث توظف ما يصل إلى 25 ألف عنصر من قوات المعارضة السورية، التي ستلعب دوراً أيضاً في الخطوط الأمامية حال اندلاع مواجهة تركية – كردية، فضلاً عن مساعي أنقرة لاستقطاب المكون العربي في المنطقة في مواجهة النفوذ الكردي في تلك المناطق خاصة في ظل تأييد أغلب العشائر العربية لاستغلال سياسات أنقرة المعادية للأكراد في شمال سوريا.
ملف التسوية: "عودا على بدء"
من المتوقع ألا يبدأ المبعوث الأممي الجديد لسوريا جيري بيدرسن من حيث انتهى سابقه دى ميستورا إلى الفشل في ملف تشكيل اللجنة الدستورية، كما أن خبراته الخاصة بالعمل منذ فترة طويلة في قضايا الصراعات والأزمات التي تشهدها المنطقة ستنعكس على رؤيته لإدارة الأزمة.
لكن من الواضح أنه سيصطدم بالتحولات الجيوسترايتجية وانعكاساتها السياسية، وبالتالي سيقضي الكثير من الوقت لمراقبة ملامح الخريطة المقبلة للأزمة، واستكشاف ملامح أدوار الفاعلين بعد إتمام عملية الانسحاب الأمريكي، وما إذا كان إنهاء دور "الشرطي" الأمريكي سيقوض بالتبعية الدور الدبلوماسي الذي كان جيمس جيفري، المبعوث الأمريكي لسوريا، قطع فيه شوطاً يمهد لانخراط أوسع في العملية السياسية، وهو ما سيتيح هامشاً أكبر مما هو عليه لروسيا على أرضية "أستانة- سوتشي" وفقاً لمصالح حلفائها ومراكز السياسية والميدانية الجديدة.
عودة سوريا إلى الحاضنة العربية
ثمة اتجاه عربي لاستئناف العلاقات الدبلوماسية مع سوريا، ربما يتعزز خلال عام 2019، بدأتها دولة الإمارات العربية المتحدة التي كانت أول دولة عربية تقوم بافتتاح سفاراتها في دمشق، تلتها البحرين ثم إعلان الأردن أنها بصدد الاتجاه ذاته وربما ستتجه مصر أيضاً الوجهة ذاتها، مع توقعات بطرح قرار عودة سوريا إلى الجامعة العربية خلال القمة العربية المقررة في تونس، مارس 2019.
في المحصلة الأخيرة لاستشراف المشهد الروسي في ضوء المؤشرات الحاكمة للتفاعلات السياسية والعسكرية يمكن القول إن هناك عدداً من الملامح الرئيسية لأزمة فى 2019 وربما ستمتد لفترة في المستقبل المنظور ومنها:-
- انتقال جيبولتيكي لثقل التحولات السورية شرقاً: في ضوء تفاعلات رسم خريطة شرق الفرات بعد الانسحاب الأمريكي كمناطق نفوذ ومصالح قوى ستقودها روسيا.
- تقويض المشروع الكردي في شمال سوريا: في ظل مأزق محدودية الخيارات مع غياب البديل الاسترايتجي للولايات المتحدة، والتحرك العسكري التركي مع توافق تركي - إيراني بدعوى إنهاء مشروع تقسيم سوريا.
- إعادة تموضع داعش على الساحة السورية: المعطيات الجديدة التي يمثلها عامل إضعاف الأكراد كقوة تصدي لداعش وانسحاب القوى الفعالة في التحالف ميدانياً، ومصالح أطراف محلية في إنهاك القوى الكردية تكتيكياً، تمثل عوامل لإنعاش التنظيم في سوريا، فضلاً عن حاجة التنظيم لإثبات وجوده وأنه لن يهزم.
- بقاء معضلات التسوية: على خلفية تطور المشهد الميداني، وخريطة التوازنات الجديدة، فضلاً عن غياب تراكم يمكن الاستفادة منه في بناء عملية سلام، تخرج سوريا من نفق الأزمة.
- بقاء الصراع مع تغير حدته: الوضع الجديد على الأرض لا يفترض معه نهاية الصراع، لكن وفقاً للأوضاع الأمنية من المتوقع انخفاض حدة الصراع وفقاً لمحركاته الداخلية، دون استبعاد احتمالات صدام واسع بناء على تفاعلات الخارجية.