كثيرة هي الأزمات التي واجهت المعارضة السياسية السورية منذ بداية الأزمة في بلادها، بسبب تفرقها وتفتتها، واعتماد أطرافها على قوى إقليمية ودولية مختلفة.
كثيرة هي الأزمات التي واجهت المعارضة السياسية السورية منذ بداية الأزمة في بلادها، بسبب تفرقها وتفتتها، واعتماد أطرافها على قوى إقليمية ودولية مختلفة. لم تسمح الأجواء في سوريا منذ 1958 بوجود معارضة تكتسب الخبرة بطريقة تراكمية. لذلك وُلدت هذه المعارضة مأزومة في لحظة استدعت وجودها عقب انفجار الانتفاضة السلمية في مارس 2011 بصورة مفاجئة. وبدا حضورها منذ البداية ضعيفاً، وحركتها بطيئة، على نحو وضعها في موضع رد الفعل طوال الوقت، وأتاح لنظام بشار الأسد فرض منهجه في الصراع، فنجح في دفع الانتفاضة للتخلي عن سلميتها، وأغرقها في بحر من الإرهاب.
لم تستطع المعارضة انتزاع زمام المبادرة، حتى في المرحلة التي حظيت فيها بدعم دولي واسع أتاح إصدار بيان جنيف الأول والقرار الدولي 2254 اللذين فتحا باباً لتغيير جوهري في سوريا. وبدلاً من أن تقدم تصوراً واضحاً للبناء على «جنيف 1»، انشغلت بالدفاع عنه ورفض أي مواقف أو تحركات لا تستند إليه.
لذا تمكنت روسيا من الالتفاف على ذلك البيان. لم تساعد المعارضة من مدوا يد العون إليها. ولم تُقدِّر أن للدعم الدولي والإقليمي حدوداً لن يتخطاها، بخلاف المساندة الروسية والإيرانية لنظام الأسد. ولم تقرأ جيداً المشهد حين امتنع أصدقاؤها عن تزويد «الجيش الحر» وغيره من القوى المعتدلة بأي سلاح نوعي. وأغراها تقهقر قوات النظام، قبل أن يقلب التدخل العسكري الروسي في سبتمبر 2015 الموازين على الأرض. وظلت تنتظر دعماً عسكرياً نوعياً حتى بعد أن أصبح الوقت متأخراً، وصار موقف واشنطن واضحاً، وباتت روسيا هي الأكثر تأثيراً في مسار المعارك الميدانية.
ومثلما عجزت المعارضة السياسية السورية عن إدارة الصراع بمنهجية تساعد في استثمار التراجع العسكري لنظام الأسد قبل التدخل الروسي، تبدو عاجزة الآن عن التعامل مع أمر واقع فرضته موسكو بالقوة المسلحة، وتسعى لتكريسه سياسياً. تلهث هذه المعارضة وراء الخطوات الروسية فلا تستطيع اللحاق بها بعد أن رفضت طويلاً اضطلاع موسكو بدور رئيس في المفاوضات. ويزداد ارتباكها بعد أن حددت موسكو «أجندة» الحل السياسي بصورة ضمنية في أستانا الشهر الماضي.
فقد نص بيان أستانا على أن الصراع يمكن حله فقط عبر عملية سياسية يتم الاتفاق عليها، وليس عبر الانتقال السياسي الذي نص عليه «جنيف 1». كما وزع الروس مسودة مقترحة لدستور سوري جديد يضمن بقاء الأسد رئيساً حتى عام 2021 على الأقل، مقابل منح بعض الصلاحيات التنفيذية لرئيس الوزراء والحكومة، ويقيم نظاماً فيدرالياً بهدف مغازلة الفصائل المسلحة، وإغرائها بالتطلع إلى إدارة بعض المناطق، والحصول على مناصب ضمن محاصصة طائفية.
ولم يظهر ما يدل على استعداد المعارضة لمراجعة منهجها على نحو يمكنها من التعامل بفاعلية مع الواقع الجديد. فقد انشغلت الهيئة العليا للمفاوضات والائتلاف الوطني بالبحث في كيفية تشكيل الوفد الذي سيمثل المعارضة أكثر من أي شيء آخر، واعترضت على جدول الأعمال الذي وضعه المبعوث الدولي، وأعادت تأكيد موقفها القائم على أولوية بحث الانتقال السياسي من دون طرح تصور واقعي وتفصيلي لكيفية تحقيق هذا الانتقال.
وهكذا لم تحدد المعارضة رؤيتها بشأن القضايا التي أدرجها دي ميستورا في جدول أعمال «جنيف4»، وهي الدستور والانتخابات وتشكيل حكم تمثيلي غير طائفي.. وبقيت أسيرة الشعارات، وبعيدة عن إدراك أن أي انتقال سياسي لابد أن يمر عبر دستور جديد وانتخابات، وأن بالإمكان بحث هذا الانتقال عبر تحديد محتوى الحكم التمثيلي وآلياته. كما لم تبحث المعارضة ما يمكن أن يترتب على فشل «جنيف4» الذي استبقه بعض قادتها بإبداء تشاؤمهم تجاهه، وإمكانية اتجاه موسكو إلى طي صفحة هذا المسار الذي ترعاه الأمم المتحدة، وتكريس «أستانا» بديلاً عنه، سعياً لتسوية بين النظام والفصائل المسلحة التي التزمت وقف إطلاق النار.
وهكذا ربما تكتشف المعارضة السياسية، التي تواضع طموحها إلى ضمان البقاء في مشهد اختلف جذرياً عما كان عليه قبل عام واحد، أنها قد لا تجد مكاناً لها حتى في هامش صغير، بعد أن باتت محشورة في زاوية تضيق يوماً بعد آخر.
*نقلاً عن " الاتحاد "
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة