نتحدث عن زمن كان لدينا فيه شام نعدّه قلباً للعروبة نابضاً، وصخرة تتكسر عليها كل الدعوات والمؤامرات
نعرِف أن ما سنقوله ليس إلا مجرد فضفضة، ونعرف أن الفضفضة ليست أكثر من مجرد أمنيات، ونعرف أن ليس كل الأمنيات قابلة للتحقق، ونعرف أن ما يتحقق من الأمنيات لا يعيد الزمن إلى الوراء، وإنما يأخذنا إلى زمن جديد مختلف.
لكنه ليس الزمن الذي كنا نريده أو نتمنى العودة إليه. ومع هذا نقول خذوا زمنكم وردّوا إلينا زمننا، لأن زمننا بكل ما كان فيه من أشياء لم تكن تعجبنا وقتها، يبقى أكثر جمالاً عندنا إذا ما قارناه بزمنكم هذا الذي لا تبدو له نهاية.
نتحدث عن زمن كان لدينا فيه خليج عربي على قلب واحد، لا يعرف الأضغان والأحقاد والتحاسد، ولا يكيد فيه الأخ لأخوته، ولا يحيك فيه الجار المؤامرات لجيرانه القريبين وأشقائه البعيدين، ولا يؤوي الإرهابيين الهاربين من بلدانهم.
لا أتحدث عن سنوات الشباب وأيام الصبا التي لا نستطيع كبح جماح أحلامها، كما قد يتبادر إلى أذهان البعض ممن يحنّ إلى زمن مضى لن يعود أبداً، ولكنني أتحدث عن ذلك الزمن الذي كان فيه لدينا أزمات كانت تبدو لنا كبيرة، لكنها كانت قابلة للنقاش والحل، وكان لدينا فيه زعماء وقادة ورؤساء يختلفون، لكنهم في النهاية يجلسون على طاولة واحدة يتناقشون.
وكانت لدينا فيه أوطان ينتشر في أرجائها الفقر والجهل والتخلف، لكنها كانت موحّدة لا تمزقها الصراعات، ولا تُزهَق فيها الأرواح، ولا تُسفَك فيها الدماء، ولا يُطرَد منها أهلها ليتحولوا إلى مشردين ولاجئين، يتسولون الأمن والمنام والطعام، ويشعرون بأنهم مثل الأيتام على مائدة اللئام.
نتحدث عن زمن كان لدينا فيه أنظمة دكتاتورية في بعض البلدان العربية، تتشبث بالسلطة لكنها تحافظ على وحدة أرضها، ولا تسمح بتمزيقها وتحويلها إلى مقاطعات وأقاليم صغيرة.
نتحدث عن زمن كان لدينا فيه حد أدنى من الحياء، يمنعنا من التآمر على جيراننا، وتدبير المكائد لهم، وطعنهم في ظهورهم. نتحدث عن زمن كان لدينا فيه جامعة عربية، صحيح أنها مغلولة اليد قليلة الحيلة لا تحل ولا تربط، لكنها كانت تستنكر على الأقل وتشجب.
وتدعو أعضاءها للاجتماع إذا ألمّ خَطْبٌ، لا يخرج المجتمعون فيها بحلول ناجعة، لكنهم على الأقل لا يصفون الدول التي تحتل أراضينا، وتتآمر على مقدساتنا، وتسعى لزعزعة أمن واستقرار بلداننا، بأنها شريفة. يختلف قادة بلدان جامعتنا العربية، لكنهم في النهاية على طاولة واحدة يجتمعون، وعلى تلك الطاولة يتصارحون، وربما يتعاركون.
نتحدث عن زمن كان لدينا فيه عراق لا يفرق أبناءه دين ولا مذهب ولا عرق، يتآلف أهله ويتعايشون من دون أن يعرف أحدهم دين جاره أو مذهبه أو ملته، فأصبح لدينا عراق تقسِّمه الطائفية والمذهبية والعرقية.
ينقاد أفراده لفتاوى الأئمة والمرجعيات أكثر مما ينقادون لقوانين الدولة ودساتيرها، وتسيطر عليه الميليشيات والحشود الشعبية وغير الشعبية أكثر مما تسيطر عليه وحدات الشرطة والجيش الرسمية.
تهدد الدعوات والنعرات والأحلام ذات الأبعاد الدينية كيانه من أقصاه إلى أدناه، وتعصف بوحدته انتماءات أبنائه ونزعاتهم وولاءاتهم، ويسيطر على القرار فيه من كان ذات يوم عدوّه الذي يحاربه.
توجه بوصلته رياح ليست عراقية ولا عربية، وينهب خيراته من يدّعون أنهم حرّاسه الأمناء على ثرواته، وتهون مطامح أبنائه التي كانت ذات يوم كبيرة، حتى غدا «أدنى طماح غير مضمون» على رأي شاعره الكبير محمد مهدي الجواهري.
نتحدث عن زمن كان لدينا فيه شام نعدّه قلباً للعروبة نابضاً، وصخرة تتكسر عليها كل الدعوات والمؤامرات، وتنتهي عند حدوده كل الخلافات. شام نردّد له مع الرائعة فيروز كل صباح:
هنا التُّراباتُ من طِيْبٍ ومن طرَبٍ وأين في غيرِ شامٍ يُطرَبُ الحَجَرُ؟
فغدونا في زمن توقف فيه قلب الشام عن النبض والطرب، وكف فيه صوته عن الإطراب، بعد أن علت فيه أصوات الناعقين بالخراب، الضاربين على وتر العنف والتطرف والإرهاب، العاملين على تفريق الأمة، وتحويل أرض الشام إلى ساحة لعصابات وجماعات تخدم أجندات خبيثة، ليس من بينها أجندتنا، ولا أجندة الشام التي قال عنها شاعر لبنان الكبير سعيد عقل: «كأنك السيفُ مَجْدَ القولِ يختصرُ».
نتحدث عن زمن كان لدينا فيه بلد اسمه ليبيا، كان له رئيس تنتابه نوبات لا نعرف لها وصفاً، فيخرج علينا بصرعات غريبة، لكنه كان بلداً متوحداً من الشرق إلى الغرب، ومن البحر إلى الصحراء، يتطلع إلى فجر طال انتظاره منذ الفاتح الذي لم يعد فتحاً على أهل ليبيا الطيبين الأحرار.
فأصبحت ليبيا اليوم بلداً لا نعرف له حدوداً بعد أن اجتاحته الجماعات المسلحة التي تسمي نفسها إسلامية، وتتقاتل في ما بينها أكثر مما تقاتل أعداءها، وتنشر الرعب في كل مكان يصبح لها موطئ قدم فيه.
نتحدث عن زمن كان لدينا فيه خليج عربي على قلب واحد، لا يعرف الأضغان والأحقاد والتحاسد، ولا يكيد فيه الأخ لأخوته، ولا يحيك فيه الجار المؤامرات لجيرانه القريبين وأشقائه البعيدين، ولا يؤوي الإرهابيين الهاربين من بلدانهم، المتآمرين على أمتهم. فأصبح لدينا من يخون ويتآمر ويلعب في الخفاء، ويسخّر ثروات بلده لتخريب بلدان الجيران والأشقاء.
صحيح أن زمننا الذي نتحدث عنه لم يكن جميلاً إلى الدرجة التي تجعلنا نطالب بردّه إلينا، لكنه لم يكن سيئاً مثل هذا الزمن الذي يصرُّ البعض على وصفه بالربيع، ويخلعون عليه أسماء بديعة، ويعدوننا بأنه سوف ينزل علينا المنّ والسلوى لنأكل من طيباته. لذلك على الفرحين بهذا الزمن أن يرحمونا من نعيقهم، وأن يأخذوا زمنهم معهم ويردوا إلينا زمننا، فنحن لسنا أفضل حالاً في زمنهم، ولن نكون أسوأ حالاً في زمننا إذا ردّوه إلينا.
نقلا عن "البيان"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة