لا يمكن إذن (لمن يؤمن بحرية السوق) أن يعترض على قرار تعويم الجنيه فى المصارف الخاضعة للحكومة، (أما فى خارج هذه المصارف فالجنيه عائم أصلا،
كان تعويم الجنيه، الذى حدث فى مصر منذ أيام قليلة، إجراء متوقعا، بل شبه حتمي، فى الظروف التى آلت إليها سوق الصرف فى مصر، ففى ظل الاتساع المخيف بين سعر الدولار فى السوق الحرة (أو الموازية أو السوداء)، والذى يتحدد بقوى العرض والطلب، وبين سعره فى المصارف الخاضعة للحكومة، وفى ظل تبنى الحكومة سياسة حرية السوق، كان لابد أن ترضخ الحكومة فتترك سعر الدولار فى مصارفها يتحدد أيضا بالعرض والطلب، ولو إلى حين، حتى تتقلص هذه الفجوة إلى حجم معقول، إذ ما الفائدة من سعر تعلنه الحكومة لبيع الدولار وشرائه، دون أن تكون الحكومة قادرة على بيعه بهذا السعر، ولا أحد يريد أن يبيعه لها بهذا السعر أيضا؟.
لا يمكن إذن (لمن يؤمن بحرية السوق) أن يعترض على قرار تعويم الجنيه فى المصارف الخاضعة للحكومة، (أما فى خارج هذه المصارف فالجنيه عائم أصلا، أى يتحدد سعره بالعرض والطلب، سواء أرادت الحكومة ذلك أو لم ترد)، ولكن عدم الاعتراض على التعويم لا يعنى أننا كنا نتمنى الوصول الى هذه الحال، فالتدهور الشنيع لقيمة الجنيه فى السوق الحرة لم يكن يتمناه أحد (إلا المتربحون من الاتجار فى العملة)، إذ إن هذا التدهور جلب، ولا يزال يجلب، متاعب شديدة لمعظم الناس، وهم الذين يعتمدون لقضاء حاجاتهم اليومية على شراء سلع وخدمات يحتاج الحصول عليها أو إنتاجها الى دولارات، وهى للأسف أكثر من اللازم بسبب الإهمال الطويل الذى تعرضت له الصناعة والزراعة فى مصر، بل وبسبب تدهور كثير من الخدمات فى مصر (كالتعليم والصحة) مما دفع الكثيرين الى تلبية هذه الحاجات فى الخارج. لقد بدأ هذا التدهور بوضوح مع قيام ثورة يناير 2011، أى منذ ما يقرب من ست سنوات، وقد كان هذا التدهور طبيعيا ومفهوما فى الشهور الأولي، بسبب ما تحدثه قلة الاستقرار السياسى والاقتصادى من قلق لابد أن يؤثر على حالة الأمن، وعدم الاطمئنان لما يمكن أن يحدث فى المستقبل، فينخفض الاستثمار (الآتى من الخارج أو من الداخل)، وتنخفض إيرادات السياحة، وتحويلات العاملين فى الخارج، فينخفض عرض الدولارات، دون أن يحدث ما يمكن أن يخفض الطلب عليها، بل وفى ظروف كهذه لابد أن يزيد الميل الى تهريب الأموال للخارج، مما يزيد الطلب على الدولار ويرفع سعره، ولكن كيف سمحنا للتدهور فى سعر الجنيه بأن يصل الى هذا الحد، وأن يستمر طوال هذا الوقت؟ نعم، أى ثورة لابد أن تجلب درجة من عدم الاستقرار، ولكن لمدة ست سنوات؟ ودون أن يبدو بريق أمل فى عودة الاستقرار؟ ثم ألا يصاحب الثورات الوطنية عادة ارتفاع فى مستوى الحماسة والشعور الوطنى مما يحفز على اتخاذ سياسات وطنية، ويولد حرصا على مراعاة مصالح الجماهير، وتجنيبهم المصاعب الاقتصادية وغيرها؟.
انظر ما حدث منذ يناير 2011، حكومات متتالية لم تبد منها تلك الحماسة أو الكفاءة المنتظرة من حكومات تجلبها الثورات الوطنية، وتبدى عجزا مدهشا عن الوصول الى حلول لمشكلات عاجلة، ولا يبدو مثلا أن هذه الحكومات المتتالية قد واجهت مشكلات السياحة بما تتطلبه من حلول عاجلة، سواء فى التعامل مع الدول الأجنبية أو فى محاولة تعويض ما حدث بإيجاد أعمال بديلة للمتبطلين بسبب إغلاق الفنادق أو انخفاض نسبة إشغالها، ولماذا لم تواجه هذه الحكومات المتتالية مشكلة نقص الاستثمار الأجنبى والوطنى بإجراءات لتشغيل المصانع المتوقفة عن العمل، أو باستثمارات جديدة من جانبها تتوجه أساسا لعلاج ما نتج عن نقص الاستثمارات من ارتفاع فى البطالة وقلة إنتاج بعض السلع الضرورية؟ الذى حدث بدلا من ذلك، هو تبنى مشروعات عملاقة ليست من النوع الذى يواجه هذه المشكلات، لا من حيث ما توجده من فرص عمل جديدة ولا بما يمكن أن تولده من إنتاج ودخل فى فترة قصيرة.
نعم، الاعتراف بالحق فضيلة، وبهذا المعنى يكون الاعتراف بضرورة التعويم أفضل من إنكاره والعناد بشأنه، ولكن الأفضل من هذا هو التبكير فى إدراك الخطأ والعمل على تجنب آثاره أو التخفيف منها بمجرد وقوعه، وهو للأسف ما لم يحدث طوال الست سنوات الماضية، وليس لدينا بعد ما يدل على الاستعداد للاعتراف بخطأ السياسات السابقة.
ولكن هذا شيء آخر، قد لا يقل خطورة، لابد من التحذير منه، إن هذه السياسات الخاطئة التى استمرت طوال السنوات الست الماضية، اقترنت بترديد الكلام عن «الخصخصة»، أيا كان التعبير المستخدم بشأنها، سأسارع بالقول بأنه لا أحد ينكر ضرورة تشجيع الحافز الفردى وأهمية دور القطاع الخاص فى الخروج من أزمتنا الحالية، ولكن هذا شيء والخصخصة شيء آخر، الخصخصة هى أن تبيع أصولا عامة قائمة بالفعل للأفراد والشركات الخاصة، والخصخصة التى أحذر منها هى تلك التى لا يوجد مبرر من المصلحة العامة لاتخاذها، خاصة فى الظروف التى نمر بها الآن، كبيع أراضى الدولة للأفراد والشركات بأثمان بخسة وبصرف النظر عما يمكن أن يصنع هؤلاء الأفراد والشركات بهذه الأراضى بعد شرائها، إن هذا التحذير له أهمية خاصة فى ظل ما حدث من تطورات فى سعر الصرف، فتعويم الجنيه قد يكون معناه، فى حالة بيع أراضى الدولة أو غيرها من الأصول للأجانب، أن تباع هذه الأصول بأثمان بخسة لا يمكن أن تحقق أى مصلحة إلا مصلحة من يشتريها من الأجانب.
لقد حدد البنك المركزى فى نفس الوقت، الذى أعلن فيه تعويم الجنيه، سعرا للدولار سماه سعرا «استرشاديا أوليا»، لكى تطبقه البنوك فى التعامل مع الدولار، مع هامش بسيط الى أعلى أو أسفل، ولكى تطبقه أيضا الجمارك فى حسابها لقيمة الضريبة على السلع المستوردة، وهذا السعر هو 13 جنيها للدولار، إن هذا السعر يبدو لى تحكميا الى حد كبير، وكأنه مجرد السعر المتوسط بين سعر الدولار الذى كانت تطبقه المصارف الخاضعة للحكومة قبل التعويم (نحو 8 جنيهات) وبين آخر سعر وصل إليه الدولار فى السوق الموازية قبل التعويم (نحو 18 جنيها)، ولكن هذا السعر الأخير ليس إلا نتيجة تفاعل عوامل مؤقتة لا تعكس بالضرورة لا درجة الحاجة الى الاستيراد، ولا مدى توفر الدولار فى الظروف العادية، ومن ثم لا يبدو لى اختيار سعر 13 جنيها للدولار أكثر حكمة بالضرورة من غيره، فهل هذا هو السعر الذى نحب أن نعرض به بعض الأصول المملوكة للدولة، من أراض أو غيرها، لكى يشتريها الأجانب؟ إن هذا فى رأيى قد يكون الخطر الأكبر من إجراء التعويم الأخير، فياليتنا نسمع من يطمئننا أن مثل هذا لن يحدث.
*نقلا عن جريدة الأهرام
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة