الفضاء فسيح، وما لانهاية له، ولم يعد أحد يتكلم عن الكون، فهناك أكوان كثيرة، ومحاولة البحث عن الحدود فيها الكثير من العبث.
دعونا نغادر الكرة الأرضية ولو لمقال واحد ونذهب إلى الفضاء؛ أو ما وراء الكوكب الذي نعيش عليه، فقد ازدحمت الدنيا بالبشر، وباتت مشكلات الإنسان مستعصية، وبصراحة فإن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بات مهيمنا على الأنباء، فلا تخل منه صفحة ولا صحيفة ولا مقال، تنقل عنه أو تشير إليه، أو تعلق على ما يقول.
الفضاء فسيح، وما لانهاية له، ولم يعد أحد يتكلم عن الكون، فهناك أكوان كثيرة، ومحاولة البحث عن الحدود فيها الكثير من العبث، حيث سيبقى السؤال عما هو كائن بعد الحدود؛ وهل يمكن أن يكون هناك تساؤل عما بعد النهاية؟ قصتي الشخصية بدأت مع الفضاء عام ١٩٥٧ عندما بدأ الحديث في الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة عن الخروج من كوكبنا. وكان "يوري جاجارين" هو أول رواد الفضاء الذين ذهب إلى ما وراء الكرة الأرضية، وحصلت على أول طابع بريد عليه صورته من خالي الذي كان مبعوثا مصريا في موسكو، ولما رددنا عليه بحماس شديد عن ذلك الاختراق لما وراء الحجب، أرسل لي صورة لرائد الفضاء موقعا عليها منه، وكان واضحا أنه يجري توزيعها في موسكو على كل من يرغب فيها.
لم يمض وقت طويل حتى كانت واشنطن هي الأخرى قد أرسلت رائدها، وهكذا أصبح الفضاء جزءا من أحاديث الأرض، وامتدادا لها، وعندما أخرج "ستانلي كوبريك" فيلمه عن "رحلة إلى الفضاء" عام ١٩٦٨ كان الإنسان قد بات قريبا من الوصول إلى القمر؛ ولم تكن قضيته المعجزة العلمية بقدر ما كانت "ماذا يفعل الإنسان بالفضاء ولم يكن يفعله بالأرض؟".
كانت وجهة نظر تستحق التفكير، بل أنها تكررت بعد ذلك في كثير من الأفلام التي أعادت إنتاج أخريات جرت أحداثها على الأرض، وكل ما هنالك هو أن "شين كونري" حل محل "جاري كوبر" في فيلم "ساعة الظهيرة"، وظلت القصة والنهاية على حالها التي ينتصر فيه البطل القادر والطيب في ساعة بعينها على طائفة من الأشرار. كان الفارق أن "كونري" لم يحصل على "الأوسكار" الذي حصل عليه "كوبر"، وكانت الخلفية قد تغيرت بشكل جوهري، وبتنا على الأرض نعرف معلومات عما يحدث للإنسان عندما تختفي الجاذبية الأرضية. كانت نظريات "إينشتين" قد وضعت موضع التطبيق، وعندما وضع "نيل أرمسترونج" قدمه على أرضية القمر قبل خمسين عاما في ٢٠ يوليو/تموز ١٩٦٩ باعتبارها خطوة واحدة لإنسان، ولكنها قفزة عظيمة للبشرية، كان يبشر أن الدنيا لم تعد على حالها.
من بين الدول العربية فإن دولة الإمارات العربية المتحدة لديها برنامج متكامل وواضح للذهاب إلى المريخ قبل نهاية هذا القرن. وفي العموم فإن الزمان قد دار دورته كاملة للاتصال ما بين كوكب الأرض والعوالم الأخرى، على أن يكون القمر القريب محطة للانطلاق إلى فضاءات لم يوجد فيها بشر من قبل.
كان البرنامج الأمريكي للوصول إلى القمر مهما من زاويتين: أن البرنامج في حد ذاته كان فتحا كبيرا في العلم وتطبيقاته، خاصة أنها تشعبت إلى قضايا كثيرة وكبيرة؛ ومن زاوية أخرى أنها كانت جزءا من السباق في الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي. فقبل أيام من رحلة "أرمسترونج" أعلنت موسكو أنها سوف ترسل مركبة إلى القمر لكي تعود بصخور منه؛ كان ذلك ضمنيا يعلن عن تفوق سوفيتي، حيث لم تكن هناك حاجة لإرسال إنسان لكي يأتي بالصخور، ولكن النتيجة كانت فوزا أمريكيا كبيرا فقد بات لغزو الفضاء وجها إنسانيا.
وفي الواقع فإنه كان إعلانا بشكل ما عن الفوز الأمريكي في الحرب الباردة، حيث ظهر من التجربة على مدى عقد الستينيات من القرن الماضي أن إحدى عشرة تجربة من تجارب برنامج "أبولو" قد أخذت الإنسان فعلا إلى العالم الخارجي. وبعد عقد آخر كان واضحا أن الذهاب إلى القمر ربما كان أمرا يثير خيال البشرية؛ ولكن ما كان وراءه كان سباقا للتسلح أثار بشدة خوف الإنسانية. كانت أفلام "جورج لوكاس" عن "حرب النجوم" قد أعطت صورة حافلة بالإثارة للحروب خارج الكوكب؛ وفي زمنها أعلن الرئيس الأمريكي رونالد ريجان عما سمي "مبادرة الدفاع الخاصة" أو اسم تدليلها "حرب الكواكب" التي كانت تقوم على اصطياد الصواريخ السوفيتية خارج نطاق الكرة الأرضية. كانت النتيجة هي نوعية جديدة مكلفة من سباق التسلح لم يتحملها الاتحاد السوفيتي، فكان الانهيار الكبير للدولة التي أعطت الكون هدية إلى الولايات المتحدة، لكي تكون الدولة العظمى الوحيدة في العالم لأقل من ربع قرن، نشرت فيها "العولمة" التي لم تكن ممكنة لولا الذهاب إلى الفضاء.
فمع القرن الواحد والعشرين بات الفضاء معلوما وجزءا من الثقافة البشرية؛ بل أنه من زاوية أخرى بات جزءا من الحياة العملية، فقد بات المدار المباشر الملاصق للأرض مزدحما بالأقمار الصناعية التي راحت تبث محطات تلفزيونية وإذاعية وصحفا ومعلومات عن الطقس ومسارات الطائرات والسفن والسيارات في شوارع المدن.
باختصار لم تعد حياة الإنسان كما كانت؛ ولا باتت حروبه هي الأخرى كما كانت، ورغم أن العربات المصفحة والطائرات القاذفة والمقاتلة والدبابات والمدفعية والصواريخ العابرة للقارات لا تزال كما هي؛ فإن حديث العقد الثاني من القرن الحالي هو عن "الحرب السيبرانية" التي يمكنها أن تغير من نتائج الانتخابات في دولة ما بالتأثير القطاعي بين الطبقات الاجتماعية والجهوية وبين الأقاليم في سكانها، وكان ذلك هو ما فعلته روسيا بالتأثير في الانتخابات الأمريكية عام ٢٠١٦؛ والأخطر من ذلك التأثير السلبي في قدرات الدولة من مياه وكهرباء وصرف صحي وطاقة، فطالما أن كل ذلك بات يدار رقميا وبتأثير شبكة اتصالات أقمار صناعية، فإن تدميره سوف يكون أولى خطوات حروب القرن الواحد والعشرين. وفي فترات سابقة من النزاع حول السلاح النووي الإيراني فإن الولايات المتحدة وإسرائيل نجحتا في إحباط تقدم هذا البرنامج، ما كان سببا في قبول إيران لوقفه حتى عاد النزاع حوله مرة أخرى.
وعندما كنت أعد لكتابي "العرب ومستقبل النظام العالمي" الذي صدر عن مركز دراسات الوحدة العربية عام ١٩٨٧ كان لابد من متابعة التطور العلمي والتكنولوجي؛ وكان الفضاء جزءا هاما من هذا التقدم. لم يعد الأمر بدائيا كما كان في أخريات الخمسينيات من القرن العشرين؛ فقد باتت الولايات المتحدة تكاد تحتكر الاستكشاف في الفضاء السحيق الذي أعطاها تليسكوب "هابل" فيه قدرات فائقة، ورحلات بات ممكنا علميا إرسالها إلى المريخ. أما الفضاء القريب في المدارات الملاصقة لكوكبنا، فقد بات ممكنا من خلال التعاون الدولي بإرسال أول محطة فضائية دائمة يعيش فيها الإنسان من ١٦ دولة؛ كانت الولايات المتحدة وروسيا لا تزال قائدتين في المجال، ولكن سرعان ما اتسع مجال الدول التي تريد أن يكون لها في الفضاء موطئ قدم. كانت الأقمار الصناعية سواء للاتصالات أو لقياس حالة الطقس هي التي ذاعت، وبات للصين والهند وإسرائيل فيها نصيب وافر، ومؤخرا فإن هذه الدول ذاتها بدأت في التركيز على القمر مرة أخرى الذي اختفى من المشروعات الأمريكية، ولكنه عاد مؤخرا على يد الرئيس الأمريكي الأكثر حماسا للمشروعات الفضائية ذات العائد المباشر والسريع؛ وعاد مرة أخرى من خلال الكثير من مشروعات القطاع الخاص وأبرزها مشروع "بيزوس" رئيس شركة "أمازون" لإنشاء مستعمرة دائمة للإنسان على القمر عام ١٩٢٤ بعد تسهيل عمليات النقل منها وإليها، الهند وإسرائيل واجهت مشروعاتها عقبات كثيرة وفشل، على الأرجح أنه مؤقت؛ ومن بين الدول العربية فإن دولة الإمارات العربية المتحدة لديها برنامج متكامل وواضح للذهاب إلى المريخ قبل نهاية هذا القرن. وفي العموم فإن الزمان قد دار دورته كاملة للاتصال ما بين كوكب الأرض والعوالم الأخرى، على أن يكون القمر القريب محطة للانطلاق إلى فضاءات لم يوجد فيها بشر من قبل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة