في مثل هذه الأيام من شهر مارس/آذار عام 2013، قادت الأقدار هذا الرجل الفقير المتواضع لأعلى مرتبة دينية، داخل المؤسسة الرومانية الكاثوليكية، منصب البابوية.
غداة الاستقالة المفاجئة لسلفه الراحل بنديكتوس السادس عشر، لم يكن خورخي برغوليو، الذي سيعرف لاحقاً باسم البابا فرنسيس يتوقع أن يتم اختياره من قبل "الكونكلاف"، أي مجمع الكرادلة، الذين يحق لهم التصويت، كبابا للكنيسة، التي تمتد جذورها لألفي عام، "لكنها إرادة الله"، على حسب تعبيره.
يصعب أن يلم المرء بمسيرة البابا فرنسيس في هذه السطور، سيما أن عقداً من حبريته، أثمر في 3 اتجاهات؛ الأول داخل الكنيسة عينها، من خلال قيادة التغييرات التي كان لا بد منها، حتى إنه أُطلق عليه "بابا إصلاح القلب"، والثاني تمثل في تعزيز الحوار والجوار بين أتباع الأديان والثقافات، فيما الثالث عرف بـ"السينودسية"، أي المسيرة معاً، أكليروس وعلمانيين .
أجرى فرنسيس الكثير من الإصلاحات في دائرة الكوريا الرومانية، أي حكومة البابا، وجميعها تبنت المزيد من التقشف والزهد، والبعد عن مظاهر الرفاهية التي لا تستقيم مع الحياة النسكية.
منذ اليوم الأول لبابويته، أظهر فرنسيس حبه للفقر والفقراء، فرفض العيش في شقة البابوات الفاخرة بالقصر الرسولي، وفضل عليها غرفتين متواضعتين في بيت القديسة مارتا، المخصص للضيوف الأجانب .
ظهرت كذلك بساطته في الحياة العامة، إذ رفض الهدايا الثمينة المتمثلة في السيارات الفارهة التي أهديت له، وصار يستقل المواصلات التي تجمعه مع بقية القائمين على شؤون الفاتيكان، ويطول الحديث في هذا السياق.
في مقدمة القضايا التي شغلت عقل فرنسيس، قضية التغيرات الإيكولوجية، وما يجري على سطح الكرة الأرضية، ولهذا أصدر الوثيقة الأولى التي حملت عنوان "كن مسبحاً"، وتحمل قراءة معمقة عن الأخطاء والخطايا، التي تسببت فيها البشرية لأمنا الأرض، والأكلاف الخطيرة التي تتربص بالأجيال القائمة والقادمة، من وراء تلك التغيرات المخيفة، ولم ينفك فرنسيس ينادي بما أطلق عليه "الارتداد الإيكولوجي"، بهدف حماية المسكونة وساكنيها.
ولعله من المثير أن تنشأ بين فرنسيس والعالمين العربي والإسلامي، علاقة خاصة، من الود الصافي، والمحبات المتبادلة، على الرغم من أنه قادم من الأرجنتين، أي بعيد بصورة ما عن الذهنية العربية والإسلامية.
تمثلت درة التاج في علاقة فرنسيس بالعالمين العربي والإسلامي، في زيارته لدولة الإمارات العربية المتحدة، التي جرت في فبراير/شباط من عام 2019، هناك حيث وطئت للمرة الأولى في التاريخ الإنساني، قدما بابا كاثوليكي، أرض جزيرة العرب، إذا استثنينا بطرس كبير الحواريين الذي عاش في تلك المناطق 3 سنوات في العقود الميلادية الأولى.
أثمرت هذه الزيارة وثيقة "الأخوة الإنسانية"، التي اعتبرت وسوف تعد على مدى عقود وربما قرون، علامة تسامحية وتصالحية في قلب عالم قلق حائر ومضطرب.
وفي برقية لتهنئته بعقد من البابوية، كتب الشيخ الجليل الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، الذي جمعته محبة خالصة مع فرنسيس، يقول: "أخي البابا فرنسيس: إن عالمنا اليوم مليء بالتحديات والصراعات والصعاب على جميع المستويات الأخلاقية والاقتصادية والمجتمعية، وهو ما يزيد من معاناة الكثير من البشر، لذا فالمسؤولية تتعاظم على القادة والرموز المخلصين أمثالكم للتخفيف من معاناة الشعوب والمستضعفين".
يعن للمرء التوقف أمام مثل هذه الكلمات والتساؤل عن عصر فرنسيس، الذي اختلف طولاً وعرضاً عن عصور سابقة، من الحروب ذات الطبيعة الدينية.
يصنع رجال الدين في حاضرات أيامنا، الأجواء الطيبة لتلاقي البشر خصوصاً بعد أن علت أصوات الكراهية، وتصاعدت موجات الأنانية والعنصرية، ناهيك عن صحوة القوميات والشوفينيات، الأمر الذي يهدد عالمنا بالدخول في حروب كونية، لطالما حرصت أجيال سابقة على عدم الوقوع في جبها المظلم العميق.
اهتم فرنسيس كذلك بالعلاقة مع المجتمع اليهودي أوروبياً وحول العالم، الأمر الذي جعل الحاخام ريكاردو سيني، رئيس الجماعة اليهودية في روما يكتب مهنئاً إياه، ومتمنياً له دوام التمتع بالصحة والقوة والحكمة، وأن يواصل دوره التنويري، والحفاظ على ما سمّاه "الصداقة المتميزة التي أراد إقامتها مع الشعب اليهودي".
الذين تابعوا مسيرة فرنسيس طوال السنوات العشر المنصرمة، يدركون كيف أن قضية السلام كانت لها مساحة واسعة في عقله وقلبه، ما دعاه ذات يوم لتقبيل أقدام قادة جنوب السودان لحثهم على صيانة السلم الهش في جوارهم.
الأمر عينه ينطبق على موقف فرنسيس من الحرب الروسية الأوكرانية، وسعيه للوساطة بين موسكو وكييف، لوقف العبث الدائر منذ أكثر من عام.
وفي كل الأحوال سوف يمثل فرنسيس، الفقير وراء جدران الفاتيكان، علامة للأخوة الصادقة بين البشر، وله التمنيات بالصحة والعافية في عقده الأول من بابويته السعيدة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة