لا تزال التطورات الجارية في قطاع غزة تدور في دائرة محددة لا تبارحها منذ بدء العمليات العسكرية على القطاع إثر أحداث 7 أكتوبر حيث دخلت إسرائيل في مساحة من التطورات الهيكلية الحقيقية.
ارتبطت غالبيتها بتصعيد حكومة الحرب لإدارة الأوضاع في إسرائيل، والعمل على بنك أهداف متسع ومفتوح على كل السيناريوهات، فيما تم التركيز على العمل العسكري البحت مع الانتقال إلى مرحلة نوعية في عمق قطاع غزة.
تشير كل الدلائل - ورغم أداء الفصائل الفلسطينية على الأرض - إلى أن إسرائيل ستمضي في إطار حسابات دقيقة ومنضبطة مع تحقيق أهداف رئيسية في بنك الأهداف، وهو ما يشير إلى أن الحكومة الإسرائيلية لن تتوقف إلا بعد استيفاء الأولويات، والمهام التي تعمل عليها في ظل ما يجري في مسرح العمليات القابل للتطور وفق ما يجري عسكريا من الذهاب إلى الخيار الصفري في الوصول إلى مدينة غزة ومنطقة الجنوب وما بعدها ما يؤكد على أننا أمام سيناريو مفتوح سيبقي القوات الإسرائيلية على الأرض، ولبعض الوقت.
ولحين تشكيل طرف، أو استدعاء أطراف في الواجهة السياسية لإدارة القطاع والأغلب أنه سيكون ممثلا للسلطة الفلسطينية أولا مع وجود رمزي لقوات أمريكية، ومن دول الناتو، ومن يريد من دول عربية قد يكون دورها لاحق في أقصى التقديرات الأمنية للتعامل مع الداخل ولإعادة تدريب قوات الأمن، ما يؤكد أن إسرائيل ستمضي في خطتها وفي ظل عدة متغيرات مستجدة خلال الأيام الأخيرة أولها: موقف مجلس الأمن وفشله تباعاً في التعامل مع المشهد بما في ذلك إحباط كل مشروعات القرارات المقدمة تباعا نتيجة لعدم وجود توافقات سياسية بين القوى الرئيسية، ودخول الولايات المتحدة على الخط ما يؤكد أن إسرائيل ستستثمر في الموقف الدولي استقواء بالدور الأمريكي الداعم.
وكذلك موقف أوروبي يرتكز على دعم إسرائيل بل ويؤيد روايتها في الدفاع عن أمنها في مواجهة فصائل وقوى تريد إنهاء إسرائيل من الوجود، ثانيها: وجود حالة من الانقسام حول الأولويات والتركيز على فرعيات أو جزئيات من قضايا الإفراج عن الرهائن والأسرى أولا ثم وقف إطلاق النار، وفي ظل تصور حقيقي بأن أولوية الدول الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة تحرير الرهائن خاصة مع التوقع بأن ملف غزة –إن طال – سيكون عنوانا رئيسيا للحملة الانتخابية الأمريكية، ولهذا تتحرك الإدارة الأمريكية لدعم إسرائيل إضافة لتهدئة الرأي العام الذي سيسأل ماذا فعلت إدارة الرئيس بايدن للحفاظ على أمن مواطنيها بعيدا عن تنظيره في مقال نشرته "واشنطن بوست" مؤخرا.
ثالثها: تدرك إسرائيل أن الاستمرار في الحرب، وإطالة أمدها، ورغم كل الخسائر الكبيرة – سيكون مدخلا حقيقيا لاستعادة الردع وعدم تجرؤ أي طرف آخر سواء إيران أو حزب الله تحديدا على عدم تكرار 7 أكتوبر مرة أخرى، ولهذا فإن التحرك الإسرائيلي سيظل تخوفا من أي ارتدادات حقيقية على استقرار الدولة، وبقائها وقناعة مواطنيها بالاستمرار، والحسم ومواجهة كل المخاطر الراهنة، التي تدفع بقوة إلى التعامل مع أي تطورات حقيقية بصرف النظر عن استمرار الحكومة، أو تغييرها أو ذهاب بعض المسؤولين الكبار وعلى رأسهم رئيس الوزراء الراهن نتنياهو، وهو ما يؤكد أن إسرائيل كدولة تتحرك في دوائر متسعة من الخيارات والمسارات، ولن تتعمد العمل على سيناريو واحد في ظل ما يجري من تحديات، ومخاطر تتعلق ببقاء الدولة في محيطها الإقليمي، مع العمل على منع أي تهديدات مقبلة في المديين المتوسط وطويل الأجل.
في مقابل الموقف الإسرائيلي، تتحرك حركة حماس في دوائر ضيقة وتعمل على إطالة أمد الصراع، خاصة أن المواجهة الراهنة باتت في دوائر محددة، ومواجهة القوة الكبيرة لإسرائيل، واستخداماتها بصورة كبيرة ما يؤكد أن حركة حماس باتت لديها قناعة بضرورة تحقيق مكاسب حقيقية، والاستمرار في المشهد الراهن، وعدم الخروج من المعادلة الفلسطينية الحالية، بل وأن تخرج بأقل الخسائر بصرف النظر عما تواجهه الحركة من تحديات تبقي على قوتها العسكرية رغم التضرر الكبير في بنيتها الرئيسية التي تعمل في مساحات واضحة من الخيارات.
ومن ثم فإن تشدد حركة حماس سيكون مرتبطا بظروف وتقبل المطروح من الإفراج عن المعتقلين في السجون الإسرائيلية.
المهم الآن قبول الطرف الآخر بما يطرح خاصة أن إسرائيل ستتشدد، ولكنها – وفي المقابل - ستقبل تخوفا من أي تأثيرات لدى الرأي العام الثائر الذي يطالب بالفعل بتحرير الأسرى بعد أن فشلت جهود قوات دلتا الأمريكية والفرقة البريطانية الخاصة، وعشرات من العملاء في استحضار رهينة أو أسير واحد ما يؤكد أن الأمر سيمضي في إطار مرحلي من إتمام الصفقة على درجات مما سيبقي حركة حماس في الواجهة الرئيسية مرة أخري، وليس أي طرف فلسطيني آخر مع ترك الأمر للأطراف الوسيطة لضمان ما سيجري، ولو على الأقل للفترة الأولى، وهو ما سيتطلب العمل في مساحات محددة لا خروج عن قواعدها في الوقت الراهن والعمل على تحقيق التهدئة، ووقف إطلاق النار كأولوية ثم إعادة ترتيب الخيارات الأمنية والسياسية، وهو ما تريده حركة حماس تخوفا من سيناريو صفري قد تقدم إسرائيل على المضي في مساره كما يحدث الآن، ورفض استمرار حركة حماس في المشهد الراهن كي لا تكون الخيارات ضيقة، أو محدودة أو هامشية ما يؤكد أن الهدف الرئيسي الاستمرار في القطاع، وهو ما سيكون محل مداولات دولية ولن تقتصر على طرف واحد، وفي ظل الذهاب إلى وقف إطلاق نار مع بقاء الأطراف في مسارح العمليات أي وجود للقوات الإسرائيلية على أرض من قطاع غزة، مع التوقع بأن إسرائيل ستريد العمل على محور أمني واستراتيجي أولا وتأجيل المحور السياسي لبعض الوقت.
ومن ثم فإن الهدف الاستراتيجي الخروج من حالة السيولة السياسية والاستراتيجية لتبني مقاربات محددة منها إقامة منطقة عازلة في شمال القطاع وكانتونات في مواقع متعددة من القطاع أي شطر القطاع في المعنى الاستراتيجي، وعدم بقائه في دائرة واحدة متماسكة ما يشير إلى أن الحكومة الإسرائيلية ستعمل بالفعل على تقليص مساحة القطاع بالفعل لتأمين حضورها الاستراتيجي والعمل على خيار أكبر وأوضح ما قد ينقل رسالة للأطراف الآخرين خاصة السلطة الفلسطينية والدول العربية بأن إسرائيل لن تنظر لأي خيارات سوى تأمين حدودها وفرض استراتيجية الأمر الواقع، وهو ما يؤكد أن إسرائيل ستعتمد خيارات أمنية أولا كأولوية عن أي خيار آخر.
وفي ظل تغييب أي خيار سياسي لا يضع أمن إسرائيل فوق أي اعتبار خاصة أن وضع المنظومة الدولية يسمح بذلك في ظل عالم متعدد الأقطاب، وتدخل كل من روسيا والصين بحذر مع تصميم أمريكي على توفير كثير من المعطيات الراسخة لإسرائيل لاعتبارات معلومة ولكون إسرائيل عضوا مهما في القوة المركزية الأمريكية، وتتمتع بوضع الدولة الاستراتيجية خارج نطاق الناتو مما يؤكد أن أي تفاوض مع حركة حماس سيكون مرتبطا بأهداف وسياسات متعددة، ولن تكون هناك خيارات لا تراعي أمنها الاستراتيجي، الأمر الذي سيتطلب من حركة حماس البحث عن صيغة محددة تعمل في اتجاه التوصل إلى صيغة آمنة مع التوقع بضرورة أن تقدم على اتباع استراتيجية متغيرة وفق ما ستنتهي إليه الأوضاع الأمنية في القطاع، وإلى أي مدى يمكن لإسرائيل الاستمرار في عمليتها العسكرية لتحقيق أهدافها الاستراتيجية الجاري التخطيط لها، والعمل على تنفيذها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة