الاقتصاديون يرون أن النشاط البشري في اتخاذ القرار يقوم على مبدأ تحقيق الفائدة القصوى، حيث يتم حساب التكلفة والفائدة.
كُنت ولا أزال أتذكر تلك الأمسية الدموية التي عشتها وعاشها الأردن في نوفمبر عام 2005 في تفجير ثلاثة فنادق بأحزمة ناسفة في وسط العاصمة الأردنية عمّان، واستهدف أحدها حفل زفاف، وأوقعت الهجمات 57 قتيلاً و115 جريحاً، هذه الهجمات تبناها تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين الذي تزعمه أبو مصعب الزرقاوي، ومع عِظم الفاجعة التي تشكل تجربة شخصية لي، تواردت الكثير من الأسئلة عن الأسباب والتفسيرات التي دفعت بهم لاختيار هذه الأهداف "الرخوة"، وبعد سنين من البحث في الإرهاب وشؤونه وجدت الإجابة في أحد المبادئ الاقتصادية التي استخدمت لتفسير الإرهاب، فلماذا اختار الزرقاوي مهاجمة هذه الفنادق؟
أثناء الحديث عن الإرهاب وتحليله، خصوصاً في العالم العربي، نكاد لا نجد أي تحليل اقتصادي يمكن من خلاله تفسير الإرهاب، وتصميم مبادرات لمكافحته بناء على وجهة نظر اقتصادية صرفة، حيث لا ميول سياسية أو عاطفة دينية أو دوافع عميقة في العقل الباطن قد تؤثر في عملية التحليل، فالأدوات المستخدمة هنا نظريات صرفة على الرغم من كونها تتسم بالكآبة والجمود فإنها تفتح آفاقا جديدة للعاملين في مجال مكافحة الإرهاب والتطرف، لأنها أولاً وأخيراً لا تهتم بالعاطفة ولا بالخلفية الثقافية أو الاجتماعية أو الرأي السياسي لمن يستخدمها، وهذا وحده كفيل بتسليط الضوء على جانب خفي في تفسير الإرهاب.
نظريا يمكن لأجهزة مكافحة الإرهاب تصميم مبادراتها من خلال رفع التكلفة على الإرهابي وخفض الفائدة، فكلما كان النسيج الاجتماعي أكثر توحدا، وكانت هيبة وسمعة أجهزة الدولة ودرجة سيادة القانون فيها عالية، زادت تكلفة النشاط الإرهابي وقلت فوائده
يرى الاقتصاديون أن النشاط البشري في اتخاذ القرار يقوم على مبدأ تحقيق الفائدة القصوى، حيث يتم حساب التكلفة والفائدة، فالمشتري يريد تحقيق أكبر قيمة من المنتج بأقل سِعر ممكن، وذلك يُمكن تطبيقه بصورة واقعية على الإرهابي عند قيامه بالعملية الإرهابية، فهو يسعى إلى تحقيق أكبر قدر من الفائدة بأقل تكلفة ممكنة، ولذا نجد أن أكثر المتطرفين عدائية وكرها للمجتمع يمتنع عن تفجير عبوته الناسفة إذا ما توقع أن تقوم السلطات بالقبض عليه وستكون "التكلفة" باهظة في ميزان تحقيقه الفائدة القصوى، وبذلك سيقوم بالاختباء وتحين فرصة أخرى وهدف أقل حماية، حيث تقل فيه فرص القبض عليه.
التكلفة المباشرة للإرهاب على الإرهابي يمكن قياسها من خلال الموارد المُستخدمة في عملية تجنيد الآخرين، في عملية التخطيط والتنظيم للهجمات الإرهابية، في شراء الأسلحة والمعدات المستخدمة في تصنيع المواد المتفجرة، وفي المبالغ التي يتم دفعها في التخفي عن أعين رجال الأمن من شراء أو تأجير للملاذات الآمنة والوثائق المزورة والرشاوى المدفوعة. والتكلفة غير المباشرة أو المعنوية على الإرهابي هي الصراع الذاتي الذي يعيشه، وما يشعر به من خوف أو ارتباك نتيجة هذه الحياة المتخفية وما يقابله من أمان وحياة طبيعية تركها الإرهابي وراء ظهره في سبيل قضيته.
أما الفائدة من الإرهاب هو ما يحققه الإرهابي من دعم لقضيته وعقيدته من خلال الهجمة الإرهابية، وما الخسائر المادية الناتجة عن الهجمة الإرهابية من أرواح وممتلكات، وقيمتها الدعائية وما يتبعها من أثر على أنصاره وما يزرعه من خوف لدى أعدائه.
ونظرياً يمكن لأجهزة مكافحة الإرهاب تصميم مبادراتها من خلال رفع التكلفة على الإرهابي وخفض الفائدة، فكلما كان النسيج الاجتماعي أكثر توحداً، وكانت هيبة وسمعة أجهزة الدولة ودرجة سيادة القانون فيها عالية، زادت تكلفة النشاط الإرهابي وقلت فوائده، واخصم من "الفائدة" احتمالية القبض على الإرهابي والعقوبة الصارمة التي قد تقع عليه. وكلما زادت درجة حماية المنشآت العامة زادت "التكلفة" على الإرهابي.
هذه النظرية الاقتصادية تفسر سر انجذاب المنظمات الإرهابية إلى حالة الفراغ الذي تعيشه الدول الفاشلة، حيث لا تكفي الخدمات العامة ولا توجد فرص عمل حقيقية، ويوجد احتقان طائفي او اجتماعي يعصف بالنسيج الاجتماعي، فتشكل الجماعة الإرهابية حاضنتها مستغلة كل تلك الظروف لتحقيق فائدتها القصوى وتقليل تكلفة الإرهاب عليها، والأيديولوجية وحدها لا تكفي لتفسير تطابق نزعات وتصرفات المنظمات الإرهابية التي تتصادم أيديولوجياتها، فالفارك FARC "الماركسية" في كولومبيا تسيطر على سوق الكوكايين وطرق تهريبه، وطالبان "الدينية المتطرفة" التي تعتمد على زراعة وبيع الأفيون كأحد أهم مصادر دخلها. فكلاهما هنا حَسَبَ الفائدة والتكلفة وبحث عن فائدته القصوى.
وبذلك نعود إلى تفجيرات عمّان في عام 2005، ولنقرأ الأحداث التي سبقت هذه التفجيرات ونطبق عليها مبدأ التكلفة والفائدة، في مارس من عام 2004 أعلنت الأجهزة الأردنية إحباطها مخططا إرهابيا بالأسلحة الكيماوية يستهدف الإدارة العامة للمخابرات ومبنى رئاسة الوزراء والسفارة الأمريكية، وبعدها بأشهر نفذ تنظيم الزرقاوي هجمة فاشلة على ميناء العقبة بثلاثة صواريخ كاتيوشا، تمكنت أجهزة الأمن الأردنية بعدها من القبض على رئيس الخلية المرتكبة للهجمة. هذه الأحداث تبين "التكلفة العالية" لاستهداف المنشآت الحيوية في الأردن من فقد للموارد والقبض على أفراد في التنظيم وما يتبعه من اعترافات وتحصيل معلومات حيوية تشكل خطراً على شبكة التنظيم. وعليه اختار أهدافاً "أقل تكلفة" وهي الفنادق، مستخدماً انتحاريين لا يمكن القبض عليهم والتحقيق معهم بعد التفجير، إلا أن تقديرات الزرقاوي خابت وأُلقي القبض على ساجدة الريشاوي التي لم ينفجر حزامها، وبعد أقل من عام تم قتل الزرقاوي بغارة أمريكية. وأعدمت ساجدة في عام 2015.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة