اللافت أيضاً أن الصراع بين «داعش» والقاعدة على الشرعية اليوم، على أشده.
واحدة من أزمات التناول الإعلامي لمعضلة الإرهاب أنه يخضع لمعايير «النجومية»، لذلك عادة لا يتم التسليط إلا على الأحداث المرتبطة بأحداث غير اعتيادية متعلقة بعدد الضحايا أو نوعية المدينة السياحية، وحتى مدى وحشية أو غرائبية التنفيذ بعد أن أدخل تنظيم داعش مفهوم التوحش القائم على الذهاب إلى أقاصي وتخوم العنف، إدراكاً منه أن ذلك المستبشع سيكون على رأس نشرات الأخبار والتحليلات وبرامج الرصد.
الأكيد أن قدرة تنظيمات الإرهاب على تجديد هياكلها واستراتيجياتها، رغم ثبات شعاراتها وأهدافها المعلنة يقودنا إلى معضلة الحرب على الإرهاب وليس التطرف، هذه الحرب مع كل التقدير لنجاحاتها فإنها ما زالت تستهدف الأفراد لا الأفكار
قبل فترة وجيزة جرت أحداث إرهابية في بلدان غير اعتيادية؛ طاجكستان حيث قتل غربيون من هواة السفر بالدراجات، وأعلن تنظيم داعش مسؤوليته، وما حدث في بلاد الطاجيك الصاعدة في عدد وحجم التعاطف والانتماء إلى تنظيم داعش، يتكرر بشكل أسبوعي تقريباً في دول أفريقية كثيرة لا يسلط عليها الضوء، كما هي الحال أيضاً في قرى ومقاطعات في جنوب الفلبين، وبعض مناطق إندونيسيا، وعادة تستهدف تلك العمليات أجهزة الأمن والسكان الأصليين.
هذه الحوادث بمجموعها إذا أضفنا إليها استهداف الأردن أخيراً، تدل على استراتيجية جديدة للتنظيمات الإرهابية، فهي من جهة تستثمر بعد التضييق عليها بمناطق التوتر والأزمات الاعتيادية؛ العراق وسوريا وليبيا، بنسبة أقل في جغرافيا جديدة، كما أنها أعادت النسبة الكبرى من المقاتلين المهاجرين من الأجانب والعرب إلى بلدانهم الأصلية، وحثتهم على مواصلة القتال والجهاد حتى تفتح جبهات جديدة يمكن عبرها تكوين مجتمعات قابلة للديمومة تتحول بفعل الإهمال الدولي وتقاطر المقاتلين إلى ولايات خلافة عند «داعش» ومشروع دولة إسلامية مزعومة عند القاعدة، ولا يعدم هؤلاء المقاتلون التضحويون في سبيل خلافة الدم اجتراح وسائل جديدة من الاغتيال بالدراجات النارية والقتل بالسكاكين إن عدموا الأسلحة النارية، كما حدث أيضاً في طاجكستان أيضاً في الفترة الماضية.
وأمس، قال تقرير مركز «ستراتفور»، إنه «يبدو أن الهجوم الذي تم التخطيط له، وتنفيذه بشكل سيئ، هو عمل (جهاديين) غير مدربين». وأشار التقرير إلى أن الهجوم كان بالسكاكين، وقال إن الإرهابيين المدربين يهاجمون، عادة، بأسلحة نارية ومتفجرات، إذا لم يرتكبوا عمليات انتحارية. وأضاف التقرير أن هذا يعني أن «داعش» يجد في طاجكستان "أرضاً خصبة".
تنظيم القاعدة بدوره ينشط بشكل كبير في شمال وغرب أفريقيا، خصوصاً دول مجموعة الساحل بما فيها تونس والجزائر بحكم الصلة التاريخية لهذه البلدان بالقاعدة، مستغلاً انتكاسة تنظيم داعش.. واستراتيجية القاعدة بحسب الحوادث المسجلة أخيراً في تلك المناطق، قائمة على إنشاء اقتصادات حرب بديلة تقوم على اختطاف وتبادل الرهائن وبيع السلاح وغسل الأموال وتهريب المهاجرين، وتحويلات كبيرة من جمعيات خيرية غير مرخصة.
اللافت أيضاً أن الصراع بين «داعش» والقاعدة على الشرعية اليوم على أشده؛ يشتغل تنظيم القاعدة في شمال أفريقيا على تركيز خطابه للمناصرين بإعادة ترسيم تنظيم داعش تنظيماً خارجياً يضم ثلة من الجهلة والغلاة والخوارج، الذين لا يشكلون الطليعة المجاهدة لتنظيم القاعدة، وهو ما يدل على أن القاعدة أدركت أخيراً أن صمتها في مناطق التوتر في العراق وسوريا كلفها كثيراً من الانشقاقات والانضمام إلى تنظيم داعش، فالقاعدة تجتهد في الحفاظ على قواعدها في شمال أفريقيا من اختراق تنظيم داعش الأكثر قدرة على استقطاب أجيال جديدة بحكم فاعليته واستراتيجية التوحش، التي تلائم المتعطشين للدم والقيام بعمليات انتحارية من زاوية اليأس والخلاص النفسي الذي يغلب على الشبان الصغار بحكم حجم الدعاية الضخمة لـ«داعش» على مواقع التواصل الاجتماعي، إضافة إلى سهولة اختراقهم بسبب اضطراب سلم القيم في هذه المراحل العمرية الحرجة.
ومن هنا نفهم أيضاً حرص القاعدة على تقديم قيادات شابة كحمزة بن لادن بديلاً رمزياً للظواهري الذي يتفرغ في استثمار علاقات القوية والقديمة بالمجموعات الجهادية الأكبر سناً لإقناعها بضرورة الانضمام إلى القاعدة، والاندماج في قلب التنظيم العالمي واستهداف الشركات الأجنبية، خصوصاً الفرنسية في شمال أفريقيا للتأكيد على رسالته في الحرب الشاملة على «الصليبيين» أكثر من استهداف الأنظمة المحلية.
الأكيد أن قدرة تنظيمات الإرهاب على تجديد هياكلها واستراتيجياتها، رغم ثبات شعاراتها وأهدافها المعلنة يقودنا إلى معضلة الحرب على الإرهاب وليس التطرف، هذه الحرب مع كل التقدير لنجاحاتها فإنها ما زالت تستهدف الأفراد لا الأفكار.
نقلا عن "الشرق الأوسط"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة