على الرغم من اختلاف شكل الإرهاب على مر التاريخ إلا أن هناك خصائص ثابتة لم تتغير فيه
بعدما استعرضنا في المقال السابق "الإرهاب.. مُعضلة التعريف"، المسوّغات والأسباب التي أدت إلى عدم وجود تعريف موَّحد للإرهاب، وقبل الخوض في تعريف الظاهرة وصورها وجب علينا إكمال السياق التاريخي للإرهاب؛ ليكون نقطة الانطلاق في تعريف هذه الظاهرة.
على الرغم من اختلاف شكل الإرهاب في كل حقبة من التاريخ إلا أن هناك خصائص ثابتة لم تتغير فيه، أولى هذه الخصائص أنه يحمل قيمة توجيهية، وهي استخدام العنف لتوجيه العالم أو الشعوب أو الحكومات لقضية المنظمات الإرهابية وأهدافها
في ثمانينيات القرن الماضي ومع ظهور بوادر الضعف على الاتحاد السوفيتي وصيرورة الحرب الباردة إلى تفككه، كانت الصورة جليّة على أن الجماعات المسلّحة بانتماءاتها المختلفة من اليسار المتطرف أو ذات النزعة الانفصالية، وحتى الأصولية الدينية كانت وقود هذه الحرب الدائرة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، ومع انحسار نفوذ الاتحاد السوفيتي أخذت ظاهرةُ الإرهاب ارتباطاً جديداً، لتقدم الجماعات الإرهابية خدماتها لأنظمة سياسة "ثورية" كنظام الخميني وصدام حسين والعقيد القذافي، استخدمت كأدوات حرب تعفيهم من المواجهة المباشرة مع القوى العظمى وقتها.
في التسعينيات لا تزال هناك صُور من رعاية الدول للمنظمات الإرهابية، إلا أن الفارق هو بروز الإرهاب الديني حيث يتم تبرير استخدام العنف بواسطة تفسيرات متطرفة للنصوص الدينية، وما أحدث الجلبة في هذه الحقبة انتعاش تجارة المخدرات في أمريكا الجنوبية ليظهر مصطلح Narcoterrorism وهو نمط جديد من الإرهاب المرتبط بتجارة المخدرات؛ ليكون الدافع الاقتصادي للإرهاب أمراً جديداً. ليتشعب الإرهاب ويرتبط بمفاهيم جديدة كالجريمة المنظمة وغسيل الأموال وشخصيات كبابلو اسكوبار.
الحادي عشر من سبتمبر 2001 شكل البجعة السوداء في تاريخنا المعاصر وما تبعه من أحداث وحروب وصراعات، وظهور مصطلحات كالحرب على الإرهاب وتطبيق أنظمة وعقوبات وتكتيكات وأساليب جديدة، لتعطي بدورها قيماً ومدلولات جديدة لمعنى الإرهاب. وظهور تعاقبية قسرية على المصطلح ليرتبط الإرهاب بالتطرّف. وظهور أسئلة جريئة عن إمكانية وكيفية اجتثاث هذه الظاهرة.
وعلى الرغم من اختلاف شكل الإرهاب في كل حقبة من التاريخ، إلا أن هناك خصائص ثابتة لم تتغير فيه، أولى هذه الخصائص أنه يحمل قيمه توجيهية، وهي استخدام العنف لتوجيه العالم أو الشعوب أو الحكومات لقضية هذه المنظمة الإرهابية وأهدافها ، ولذلك تجدر الإشارة إلى "رمزية الإرهاب"، حيث كثيراً ما يسلك الإرهاب مسلكاً رمزياً في اختيار أهدافه. كالهجوم على برجي التجارة العالمي والبنتاغون في أحداث ١١ سبتمبر ، الهجوم على مسجد الروضة في سيناء، نهب الآثار وتحطيمها بمدينة تدمر. فهناك هدف وهناك هدف متعدٍ ، فتفجير مسجد الروضة استهدف المصلين فيه، إلا أن الهدف المتعدي من وراءه هُم كافة المسلمين المصلين في منطقة التوتر في سيناء.
وبذلك تحدث الكثير من الباحثين عن أن استهداف المدنيين وترويعهم يعتبر لُب تعريف الإرهاب، بحيث قد يكون أي شخص ضحيةً له لمجرد وجوده في المكان الخطأ والتوقيت الخطأ، وبذلك ينجح الإرهابي في نشر الذعر ، وعرّفت جودي فيتوري الإرهاب في رسالة بحثها (الأيدولوجية وحدها لا تكفي) بأنه: عنف متعمد بدافع سياسي يستهدف ترويع غير المقاتلين، ينفذه أفراد أو منظمات لا تمثل الدول. والتعريف يشمل عناصر ستة.
العنصر الأول : التعمد وهو ما يعرف بالركن المعنوي في أوساط القانونيين. فلا يمكن اعتبار الحوادث العرضية أو غير المتعمدة بأنها إرهابية.
العنصر الثاني: الدافع السياسي وهو الفارق بين الإرهاب والجريمة، فالجماعات الإرهابية تتخذ قراراتها بناء على أفكار أو معتقدات وتملك منطق التفكير والرغبة في تغيير النظام، والدافع السياسي هنا يشمل البناء المجتمعي و المنظومة الدينية والحالة الاقتصادية.
العنصر الثالث: استخدام العُنف والتهديد به والتنظير له، فلو أن شخصاً ما تبنى نوعاً من الأفكار الراديكالية واكتفى بهذا الإيمان دون أن يربطه بالعمل فلا يُعد إرهابياً. أثار هذا العنصر فضول الباحثين لاحتوائه على جانب معنوي (اعتقادي) وجانب عملي وقد وضعوا هرمين لكل جانب، فيشكل وجود الواجب الأخلاقي أو الديني قمة الهرم المعنوي، و تنفيذ الهجوم الإرهابي قمة الهرم العملي.
العنصر الرابع: يستهدف غير المقاتلين، وهو ذو معنى أدق وأكثر تطوراً من استخدام كلمة "المدنيين"، فهذا التعريف يشمل المدنيين وموظفي الدولة ورجال الأمن وأفراد الجيش على النقاط العسكرية – باستثناء جبهة القتال - كما يتعدى ليحمي العسكريين أثناء ممارستهم لحياتهم العادية. ومن الحوادث التي تؤكد صحة هذا الوصف حادثة ذبح الجندي البريطاني في ولويتش جنوب لندن عام ٢٠١٣م أثناء ممارسته حياته العادية، وتعامل السلطات البريطانية مع الحدث بوصفه عملاً إرهابياً، كما نُشير إلى أن المعنى يشمل استهداف المباني والأماكن العامة والمحلات التجارية والبنوك والجسور وغيرها.
العنصر الخامس: يُنفذ من قبل أفراد أو تنظيمات لا تمثل الدولة، فكما سبق أن ذكرت بأن بعض الدول تستخدم الجماعات الإرهابية وتدعمها درءاً للمواجهة المباشرة مع الدول العظمى، ويجب هنا التفريق بين الإرهاب ومصطلح "إرهاب الدولة"، وهي المصطلح الذي يشير إلى الأنظمة الدكتاتورية التي تمارس العنف ضد شعبها إلا أنه لايدخل في المعنى التقليدي للإرهاب، نظرياً فالدولة التي تمارس العنف ضد شعبها لا ترتكب عملاً إرهابياً وإنما تدخل في تصنيف آخر من الجرائم، كالجرائم ضد الإنسانية وجرائم الإبادة الجماعية كالتي أدين بها صدام حسين في حادثة حلبجة ١٩٩١م.
ودار الجدل في العقود الماضية في الأوساط الأكاديمية عن مدى إسقاط التعريف على الأشخاص غير المنتمين لمنظمات إرهابية، وأفضى بروز ظاهرة الذئاب المنفردة في السنوات الأخيرة إلى إعادة النظر في السؤال وإعادة صياغة التعريف بما يشمل هذه الأحداث الفردية.
العنصر السادس: الترويع، أساس النشاط الإرهاب والهدف منه إدخال الخوف في المجتمعات المطمئنة، إلا أن النشاط الإرهابي قد يحمل في طياته رسائل مختلفة لا تقف على الترويع، كرفع معنويات الجماعة الإرهابية أو كسب تعاطف جماهيري أو تشكيك الشعوب بكفاءة حكوماتها أو حتى لزيادة القدرة على التجنيد.
في علم التعريف أن الأشياء اذا تشابهت في الصفات صارت عُنصراً واحداً، ومتى ما جمعت الحادثة الخصائص سابقة الذكر أشر إليها دون تردد، وقل بأنها "إرهابية".
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة