ما هي تداعيات انهيار "داعش" على منطقة الساحل الأفريقي؟
دول الساحل الأفريقي مطالبة أكثر بتكثيف عمليات التنسيق الأمني لقطع الطريق أمام فرضية اتخاذ المنطقة "معقلا بديلا" للإرهاب الدولي.
في الوقت الذي كان يتوقع فيه أن يتم الاحتفاء عالميا وإقليميا بهزيمة تنظيم داعش في شرق سوريا بعد القضاء على آخر جيوبه مؤخرا، تكشفت للعالم تحديات أمنية جديدة ترتبط بشكل أساسي بتداعيات التنظيم الأكثر تطرفا عبر التاريخ المعاصر، وهو ما يمكن أن نطلق عليه "مرحلة ما بعد داعش.
فالتنظيم الإرهابي الذي استطاع استقطاب العديد من شذاذ الآفاق من المتشددين والمتعصبين والفاشلين اجتماعيا، شكل لأكثر من أربع سنوات حاضنة مناسبة لتفريخ العديد من الإرهابيين الجدد، محاولا بذلك التأسيس لمجتمع من نوع خاص ومنعزل عن العالم، تحكمه منظومة فكرية وعقائدية تستمد مفرداتها وتفاسيرها من تراث بعض المرجعيات التي عرف أصحابها بتشدد فهمهم وتفسيرهم للدين الإسلامي.
لكن خطورة هذا التنظيم لم تكن لتنحصر في الدائرة الجغرافية التي انتزعها عنوة من دولتي سوريا والعراق، وإنما سعى جاهدا لتدمير المنظومة الاجتماعية للعديد من الدول القائمة، محاولا بذلك نشر فكر غريب على إنسان العصر الحالي، بغض النظر عن خلفيته الدينية والثقافية، من هنا كان من الطبيعي أن تتنادى دول العالم أجمع للقضاء على هذا الداء الذي بدأ يستشري في العديد من شعوب العالم ودوله.
وبما أنه لكل عملية علاجية آثار جانبية بالضرورة، فقد أسفر القضاء على تنظيم داعش في سوريا بروز قضية أسرى التنظيم، والتي أصبحت تؤرق العديد من دول العالم، فهم عبارة عن آلاف الإرهابيين وزوجاتهم وأطفالهم ممن ينتمون إلى دول مختلفة في أوروبا والعالم العربي وآسيا وأفريقيا، لكن امتناع بعض الدول التي ينتمي إليها عدد من هؤلاء الإرهابيين عن استقبالهم جعل مشكلتهم تتفاقم أكثر، فيما شكل عدم وجود استراتيجية واضحة لدى دول أخرى في التعامل مع رعاياها المحتجزين معضلة من نوع آخر، ستكون لها تداعيات سلبية على أمنها واستقرار أوضاعها الاجتماعية.
فالعديد من الدول الأوروبية على سبيل المثال عبرت عن خطورة هؤلاء على مستقبل أمنها واستقرار مجتمعاتها، ولذا قررت حكوماتها عدم استقبالهم، ووقفت بشدة في وجه مطالبة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب باستقبالهم، وهو ما يعني أن قيادات تلك الدول أدركت الأبعاد القانونية التي ستترتب على استقبال مئات الإرهابيين المفترضين على أراضيها، وذلك دون أن يكون لديها بالضرورة أدلة كافية لمحاسبتهم على الجرائم التي ارتكبوها.
معضلة قانونية
معظم دول أوروبا الغربية -التي تخضع فيها المساطر القضائية لإجراءات طويلة ومعقدة– أدركت أكثر من غيرها صعوبة الحصول على الأدلة والبراهين الكافية لإدانة المنتمين السابقين لتنظيم "داعش"، خاصة وأن ترحيل هؤلاء من الأراضي التي تم اعتقالهم عليها إلى دولهم الأصلية في أوروبا، يصعب معه العثور على شهود يعتمد عليهم كأدلة كافية على تورطهم في الجرائم الإرهابية، وبالتالي فإن القائمين على القضاء الأوروبي لا يريدون أن يجدوا أنفسهم في وضع يضطرهم إلى إطلاق سراح (إرهابيين- أبرياء)، وهو ما يعني في النهاية أن دول أوروبا التي رفضت استقبال "الدواعش" بشكل جماعي تتفادى احتضان آلاف العائدين من ساحات القتال بما يترتب عليه ذلك من مراقبتهم بشكل مستمر والتورط في برامج مكلفة لإعادة تأهيلهم نفسيا واجتماعيا في بيئة يرفضونها أصلا.
من جهة أخرى يمكن القول إن الحكومات الأوروبية –التي يعاني بعضها من الانفجارات الإرهابية على يد الذئاب المنفردة– تدرك أن رفض إرهابييها العائدين للدولة المدنية في أوروبا والآليات التي تسير بها هو السبب الرئيسي الذي دفعهم إلى قطع آلاف الأميال للالتحاق بتنظيم إرهابي يمثل في مخيلتهم البيئة المثالية للعيش والتنظيم النموذجي لدولتهم التي ستدحر الغرب، ذلك ما تفسره الردود الصادمة للعديد من هؤلاء حين أعرب بعضهم لوسائل الإعلام الغربية عن عدم إحساسه بأي نوع من الذنب أو الندم على التحاقه بتنظيم "داعش"، كما حصل مع الفتاة شميمة بيغوم المعروفة بـ "عروس داعش".
عناصر خطرة
لكن المسألة التي تسترعي الانتباه في هذا السياق قد لا تكون ردود الإرهابيين المغرر بهم، ولا حتى رفض دولهم لاستقبالهم، وإنما تكمن في مواقف الدول غير الأوروبية تجاه رعاياهم المتواجدين لدى قوات سوريا الديمقراطية "قسد" خاصة دول شمال أفريقيا ومنطقة الساحل الأفريقي التي تعاني بدورها من استمرار خطر الجماعات الإرهابية، فكيف ستتعامل حكومات تلك الدول مع رعاياها الإرهابيين إذن؟
لطالما ذكرت التقارير الإعلامية أن غالبية المنتمين لتنظيم "داعش" ينحدرون من دول شمال أفريقيا، خاصة تونس وليبيا والمغرب، إضافة إلى بعض المنتمين لدول أفريقا جنوب الصحراء، خاصة فيما كان يعرف بجبهة النصرة التي حولت اسمها إلى (جبهة فتح الشام) والموالية لتنظيم القاعدة الأم.
كما أشارت بعض التصريحات إلى أن بعض هؤلاء قد رجع فعلا إلى بلدانه الأصلية منذ منتصف عام 2015، حيث عاد إلى تونس في ذلك التاريخ حوالي 800 إرهابي من سوريا والعراق, وفق السلطات الرسمية التونسية.
فيما أشارت معطيات أخرى إلى أن المغرب يعتقل داخل سجونه حاليا حوالي 200 إرهابي من العائدين من سوريا والعراق، مع الحديث عن توقعات بعودة المزيد من الإرهابيين خلال الأسابيع المقبلة بعد انهيار آخر جيب لدولة " داعش" المزعومة في سوريا.
أما الجزائر فإنها الأقل تعرضا لخطر عودة مقاتليها من "داعش" بسبب قلة عددهم، حيث تشير المعطيات إلى أن عدد الجزائريين في تنظيم "داعش" بسوريا والعراق وليبيا لم يصل إلى 200 عنصر، حسب تصريح سابق لوزارة الداخلية الجزائرية، فيما لا يكاد يكون لدول الساحل الأفريقي أعداد تذكر في صفوف تنظيم "داعش" على الرغم من وجود أعداد قليلة وعناصر ربط بين "داعش" في المشرق وامتداداتها في غرب قارة أفريقيا وشرقها، لكن صيغة تعامل دول شمال وغرب أفريقيا مع الإرهابيين العائدين بعد سقوط تنظيم "داعش" في المشرق هي التي تحدد مدى انعكاس ذلك على أمن تلك الدول.
فقد حاولت تونس مثلا أن تضع بعض التشريعات للحد من خطر عودة الإرهابيين على أمنها، وذلك عندما حاول بعض نواب البرلمان في نهاية 2016 التقدم بمبادرة تشريعية لسحب الجنسية من العائدين من بؤر التوتر، وهي نفس الفترة التي دعا فيها الاتحاد التونسي للمرأة التونسية إلى إسقاط الجنسية عن كل من ثبت تورطه في عمليات إرهابية بدولة أجنبية وفقا لأحكام الفصل 33 من قانون الجنسية، فيما درست الحكومة في وقت سابق على ذلك إمكانية إقامة ثكنات داخل الصحراء لإيواء العائدين من بؤر التوتر نظرا لعدم قدرة سجونها على استيعاب الأعداد الهائلة من العائدين.
مقاربات جديدة ومخاطر مستمرة
ورغم عدم تمرير تلك المحاولات عبر البرلمان فإن النظام التونسي قد نجح في تبني صيغة مناسبة للتعاطي مع هذه الظاهرة، وهي المساءلة والمحاسبة والمراقبة المستمرة للإرهابيين العائدين، كما اتخذت الحكومة الجزائرية إجراءات أمنية مشددة جدًّا على حدودها الشرقية والجنوبية، وعززت وجودها العسكري بالمناطق الصحراوية منذ شهر سبتمبر 2018.
لكننا إذا تجاوزنا ليبيا -التي باتت منذ سنوات مسرحا لتنظيم القاعدة وعناصر تنظيم "داعش" والمليشيا المحلية المسلحة- فإن بقية دول الساحل الأفريقي باستثناء موريتانيا، لاتزال تعاني من هشاشة أمنية كبيرة تجعلها عرضة لعودة العناصر القادمين من مناطق التوتر في سوريا والعراق وليبيا.
وهي هشاشة جعلت البيئة الراهنة في تلك الدول ملائمة جدا لعودة هؤلاء، حيث تنشط "جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" الموالية لتنظيم القاعدة جنبا إلى جنب مع بعض التنظيمات المنشقة عنها والموالية لتنظيم "داعش" في شمال مالي والنيجر وبوركينافاسو، بل وحتى الكاميرون وتشاد، كما تنشط حركة بوكوحرام بجناحيها؛ الموالي لتنظيم القاعدة والموالي لتنظيم "داعش" في شمال نيجيريا.
فقد ساهم النشاط المكثف لـ"جماعة نصرة الإسلام والمسلمين" خلال الأشهر الأخيرة في شمال ووسط مالي وبوركينافاسو في جعل الأنظار تتجه إليها باعتبارها الوجهة المحتملة للعديد من عناصر " داعش" المنهار، والذين سيتجاوزون مسألة الانتماء التنظيمي بهدف الحصول على حاضنة جديدة.
ورغم كون دول الساحل الأفريقي تضع كل رهانها الحالي على المقاربة الأمنية بالاعتماد على دعم فرنسا الحاضرة بقوة في المنطقة عن طريق "عملية برخان" فإن دول الساحل الأفريقي مطالبة أكثر بتكثيف عمليات التنسيق الأمني مع القوى الدولية لقطع الطريق أمام فرضية اتخاذ المنطقة "معقلا بديلا" للإرهاب الدولي الذي فشل في المحافظة على معاقلة في سوريا والعراق، كما يتحتم على تلك الدول أن تبذل جهودا كبيرة لتحصين شعوبها من تسرب الأفكار المتشددة والمستوردة على أيدى الإرهابيين العائدين.
فيمكن لتك الدول أن تستفيد من عدة مقاربات إقليمية ودولية أثبتت نجاحها في محاربة الفكر المتطرف كالمقاربة الدينية المبنية على المحاججة ونشر الخطاب المعتدل، والمقاربة التنموية كخلق فرص عمل للشباب العاطل وفك العزلة عن المناطق النائية ومحاربة الفساد والعمل على إعادة تأهيل الإرهابيين المحتملين وعزل العناصر الأكثر تشددا داخل السجون، إضافة إلى ضرورة تبني الصرامة في تطبيق القوانين وعدم الرضوخ لشروط الجماعات الإرهابية في القيام بعمليات تبادل للأسرى وعدم دفع الفدية لهم مقابل إطلاق سراح بعض المختطفين، كما يجب على تلك الدول أن تبذل جهودا كبيرة لتجفيف منابع الجماعات الإرهابية بمنع عمليات التهريب عبر الصحراء الكبرى ومحاسبة المتعاطفين معهم بكل صرامة، وعلى دول الساحل الأفريقي أن تدرك أيضا أهمية ترميم الجبهة الداخلية بمعالجة المظالم التاريخية ومحاربة الاقتتال والتوترات ذات الطابع العرقي وأن تسعى لتحقيق مصالحة اجتماعية مع مكوناتها المختلفة.