وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي تحولت إلى أدوات لنشر الجهل المركب بين الناس، فمن مَلَك حسابا عليها أو ساعة بقناة فضائية أصبح عالما
الطبيب توما ورِثَ المهنة عن أبيه الذي كان حكيما ماهراً، وللأسف لم يكن الابن في مهارة أبيه، ولكن احتفظ بلقب الحكيم رغم جهله، وقلة علمه، وانعدام حكمته، إلى درجة أن حماره ثار عليه، وطالب بأن يركبه لا أن يكون ركوبته:
قال حمار الحكيم توما ... لو أنصف الدهر كنت أركبفأنا جاهل بسيط ... وراكبي جاهل مركب
وعالمنا العربي يعيش حالة مثل حالة حمار الحكيم توما، فكل شيء فيها يؤكد وجود حالة مستقرة من الجهل، بل إن هناك تقدما في مضمار الجهل، وتصاعدا على درجاته، وانتقالا من الجهل البسيط إلى الجهل المركب، وأصبح الأكثر جهلا هم صناع الفكر والثقافة، وقادة الرأي، ونجوم الفضائيات، الذين يحددون لنا من هم الخبراء، والمحللون السياسيون، والوعاظ، والفقهاء، فقد أصبحت الفضائيات هي من تمنح الدرجات العلمية وليس الجامعات كما كان في الماضي، فالتركيز على واعظ مبتدئ كان بالأمس لا يعرف من دينه إلا أحكام الحيض والنفاس أصبح اليوم يناطح العلماء، ويعترض على من هو أعلم منه دون أن يعلم ما قال، فقط.. لأنه نجم في الفضائيات، كذلك من يخرج علينا بتحليلات اقتصادية وسياسة وهو لا يعرف من الاقتصاد قواعده أو تعريفه، أو من يطل بطلعته البهية كل يوم يبدي رأيا في كل شيء وهو للأسف لا يحيط علماً بشيء، فقط.. لأنه يملك برنامجا لصناعة الجهل المركب.
وقفت كثيراً عند قول الله سبحانه وتعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}، أمر إلهي بألا تدفعنا كراهية الآخرين على عدم العدل معهم وإنكار جهودهم وتشويه إنجازاتهم أو مواقفهم، أو سلب حقوقهم، فرغم كراهيتنا لهم لا بد من العدل معهم، لأن ذلك أقرب للتقوى
ولكن ما الفارق بين الجهل البسيط والجهل المركب؟ يجيبنا إمام الحرمين أبو المعالي الجويني المتوفى ٤٨٠ هجرية، في كتابه المختصر جداً "الورقات في أصول الفقه"، فيقول "الجهل البسيط هو إدراك الشيء على غير حقيقته، والجهل المركب هو إدراك الشيء على غير حقيقته مع اعتقاد المدرِك أنه يدركه على حقيقته"، أي أن ترى الإرهابَ جهاداً فهذا جهل بسيط، أما أن تعتقد أنك الوحيد صاحب الرأي الصحيح وتدافع عنه وتتهم من يخالفه فهذا هو الجهل المركب، فالجهل البسيط يمكن العلاج منه والتخلص من تبعاته، ولكن الجهل المركب مرض عضال، لأن الجهل في هذه الحالة يتحول إلى عقيدة، يستميت صاحبها في الدفاع عنها، ولا يقبل أي علاج، بل على العكس.. يرى الأصحاء مرضى والمرضى أصحاء.
لقد عانت مجتمعاتنا لقرون من هذا المرض، ولا تزال تعاني حتى اليوم، بل إن المعاناة اليوم أشد مع انتشار وسائل الإعلام الجماهيري، والتواصل الاجتماعي التي تحولت إلى أدوات ناجحة في نشر الجهل المركب بين الناس، فكل من مَلَك ساعة في قناة فضائية أو حسابا على فيسبوك أو تويتر أصبح عالما وخبيرا ومصدرا للمعرفة، وكل من استطاع الفهم يظن أنه مفكر، يجب على الآخرين التعلم منه واتباعه، حالة مأساوية من الجهل المركب تتمدد وتتسع وتنتشر بين الناس، يختلط فيها الجاهل بنصف العالم بالعالم.. والكل سواء؛ لأنه كلام في مواجهة كلام.
في ظل هذه الحالة لا تكاد توجد قضية واحدة واضحة، وفيها حقائق واقعية، كل شيء أصبح فيه رأيان أو ثلاثة أو مائة رأي؛ لأن كل شيء أصبح خاضعا للتذوق الشخصي أو لمعايير ومتطلبات الجهل البسيط والجهل المركب، ولا يستطيع الإنسان أن يقول قولا محددا في أي شيء، الأبيض عند البعض هو في الوقت نفسه أسود عند آخرين، ولا يوجد معيار محايد أو رأي مرجعي يفصل بين المختلفين، فالكل علماء والكل فقهاء والكل سياسيون أو اقتصاديون.. إلخ، لا شيء حقيقي على الإطلاق، كلها آراء وتذوقات شخصية، لقد افتقدنا النقطة المرجعية، فلا يوجد لدينا نقطة صفر، ولا أرض نقف عليها، وفي ظل كل ذلك يصبح كل شيء مباحا، وكل شيء غير مباح، المهم أنت مع أي جانب تقف.
وأصل هذا النوع من الجهل بشقيه البسيط والمركب في عقول الناس يأتي من القائمين على المنظومة الأخلاقية للمجتمع، من يحددون الصواب من الخطأ، والصحيح من غير الصحيح، والمقبول من المرفوض، وفي القلب من هؤلاء علماء الدين والمعلمون وأساتذة الجامعات والمثقفون، وكل من ينظر إليه الناس على أنه قدوة ومثل أعلى، إذا افتقدت هذه الطبقة المثقفة المعايير وتحولت إلى تبرير كل شيء وفقا للمصالح والمنافع والتحيزات الأيديولوجية فإن المجتمع في عمومه يفقد المعيار، ويدخل في مرحلة التيه، والتوهان الأخلاقي، والمعرفي والقيمي والثقافي، ويصبح الحق باطلاً والباطل حقاً، والخير شراً والشر خيراً، وتضيع البوصلة ويتشتت الناس، ويفتقد المجتمع وجهته، ولا يعرف إلى أين يسير، إلى الماضي أم إلى المستقبل.
وقفت كثيراً عند قول الله سبحانه وتعالى: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}، أمر إلهي بألا تدفعنا كراهية الآخرين على عدم العدل معهم وإنكار جهودهم وتشويه إنجازاتهم أو مواقفهم، أو سلب حقوقهم، فرغم كراهيتنا لهم لا بد من العدل معهم؛ لأن ذلك أقرب للتقوى، حالة يصبح معها الجهل مستحيلاً؛ لأنه قد تم تحييد الهوى والتحيزات الشخصية، وأصبح هناك معيار خارج حدود مصالح الإنسان وأهوائه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة