أنت تقرأ هذه السطور لأنك حافظت على نفسك. بقيت مسافة قصيرة، فبعد عام ونصف العام تقريباً من الصبر على وباء كورونا.
يبدو آخر النفق الآن واضحاً، لن تمر ستة أشهر أخرى حتى تقف البشرية جمعاء أمام نصر مبين على واحد من أكثر الأوبئة وحشية، ليس من ناحية ما فقدناه من ضحايا فحسب، ولكن من ناحية ما لحق بمئات الملايين من أضرار ومشاق اقتصادية أيضاً.
النجاح الذي حققه العلم يبدو مشهوداً؛ لأنه رسم طريقاً لنهاية الأزمة، ولأنه حقق اختراقات في مجالات جديدة، مثل اللقاحات التي تعاملت للمرة الأولى مع بعض المكونات الجينية بحسب مثال لقاحي "موديرنا" و"فايزر"، حتى الوسائل التقليدية، التي أسهمت بإنتاج باقي اللقاحات، لم تكن تقليدية بالكامل، كما أن التقنيات التي تسارع لإنتاج مئات الملايين من هذه اللقاحات، تجعل المرء يمتلئ بالثقة بأن المعرفة هي التي تنتصر في النهاية، وهذه المعرفة نفسها كانت نتاج منقلب آخر.
التخطيط لما بعد الجائحة يتعين أن يبدأ من الآن، والأعباء التي يتعين النهوض بها كبيرة، وأحد أهمها هو تدبير الوسائل والاستعدادات لمواجهة جوائح أخرى قد تندلع في أي وقت. وما تحقق من معارف، يمكنه أن يساعد في الإسراع في كبح الضرر، إلا أن هناك جملة من المتغيرات فرضت نفسها، وتستحق أن تظل جديرة بالاعتبار، فبعض ما أخذنا به اضطراراً يجدر أن يتم قبوله ومواصلته اختياراً.
العمل من المنزل ثبت أنه تجربة هائلة الفوائد، الأمر لا يتعلق بتوفير الحماية، والحد من زحام المكاتب، وتقليص الوقت الضائع في التنقل بين البيت والعمل، بكل ما قد يتبعه من خفض لاستخدام الوقود وغازات الدفيئة، ولكنه يتيح السبل لإنتاجية أفضل في عدد ضخم من مجالات العمل ذات الطبيعة المكتبية. الكثير من الموظفين ظلوا يؤدون أعمالهم، وهم يمتلكون القدرة على كسب المزيد من الوقت وعلى تقديم المزيد من العمل.
"التعليم عن بعد" لم يعد مجرد محاولة لتعويض القدرة على جمع الصفوف، إنه وسيلة فعالة تتيح للمدارس والمعاهد والجامعات أن تستقطب طلاباً من أربع جهات المسافات.
التجربة التي فرضها الوباء كانت فوضوية الى حد ما، المؤسسات التعليمية ظلت مغلقة لأسابيع أو حتى أشهر، وهي لا تعرف ما العمل، وعندما تم الشروع في التعليم عن بعد فقد بدا الأمر غير مقنع للطلبة أنفسهم، بسبب تلك الفوضوية بالذات.
ولكن البدايات الجديدة غالباً ما تكون أقل إقناعاً، حتى تستقر وتتحول إلى منهج متقن، سواء من ناحية ضبط الأدوات وتسجيل الحضور، أو توفير المساحة الضرورية للأسئلة والمناقشات، بل حتى إعادة النظر في وسائل الاختبارات والامتحانات نفسها.
يظل هناك عامل "اجتماعي" للتعليم ظل مرغوباً وغائباً، فالاحتكاك المباشر بين الطلبة يشكل قيمة لا غنى عنها، ولكن وسائل التواصل الاجتماعي الافتراضي نفسها وفّرت ميداناً موازياً للاحتكاك، ولئن ظل بالإمكان للمحاضرات والدروس أن تبقى في إطارها التقني الجديد فالحقيقة هي أن شيئاً لا يمنع الطلبة من أن يواصلوا تواصلهم الاجتماعي نفسه داخل المؤسسات التعليمية، دائماً أو حينما تستوجب الضرورة.
الصفوف التي كانت تراهن على تعليم 30 طالباً، يمكنها بوسائل "التعليم عن بعد" أن تعلم عدداً أكبر، وأن توفر الحرية للتلميذ في أن يحضر إلى صفه ليستمع إلى محاضر على شاشة، أو أن يبقى في المكان الذي يشاء ليستمع إلى المحاضرة نفسها.
بكلام آخر، فإن المُحاضر الذي يتحول إلى شاشة بحجم السبورة، سوف يتيح للطالب حرية الاختيار بين أن يسجل حضوره داخل الصف أو خارجه.
الاجتماعات والندوات والمؤتمرات والإدارات الحكومية، بل حتى اللقاءات الفردية سلكت ممراً لا عودة عنه بالاستغناء عن الحضور المباشر، ولكن ليس لأنه مُكلف، بل لأن تطبيقات مثل "زووم" وفرت بديلاً فعالاً بما فيه الكفاية.
كل عالم الصحافة والنشر يمكنه أن يتبنى الوسائل الرقمية الآن، ويتخلى عن وسائله التقليدية تدريجياً على الأقل.
لقد حققت المعرفة البشرية قفزة هائلة عندما انتقلت من الكتابة على الطين إلى الكتابة على الجلود وورق البردي، ومن ثم حققت قفزة أكبر عندما انتقلت إلى الكتابة على الورق.
معرفياً، نحن ثمار عالم الورق، ولكننا محظوظون بحيث نعيش قفزة أخرى. تخيّل "كاتب الطين" عندما تعطيه الورق سوف يتردد، وربما يقول لك إنه "يعشق رائحة الطين"، بالضبط كما يقول البعض الآن إنه "يعشق رائحة الكتاب الورقي". ولكن الحقائق حقائق في النهاية، وهي أن القفزة الرقمية في المعرفة فتحت الحدود وأزالت القيود وقلصت التكاليف ووفرت بسرعة البرق ما كان لا سبيل إلى توفيره إلا بشق الأنفس.
لم تعد في حاجة إلى أن تقطع مئات أو آلاف الأميال للذهاب إلى "المكتبة الوطنية"، كما لم يعد الكتاب نفسه بحاجة إلى أن يقطع إليك كل تلك المسافة، والمكتبة الوطنية التي لم "تترقمن" تحوّلت إلى متحف.
لم يكن لوباء كورونا أي فضل في التعرف على ما كنا قد بدأنا العيش فيه، ولكنه بما فرض علينا من اشتراطات دفعنا إلى إدراك حقيقة أن النافذة التي فتحها عالم الإنترنت قبل ثلاثين عاماً، أصبحت هي الباب وهي الطريق.. هل تستطيع أن ترجع؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة