حقيقة لا جدال فيها أن الشأن السياسي هو أعظم شؤون المجتمع وأكثرها تعقيداً، لأنه يحتاج إلى مَن يملك الرؤية الكلية.
ويستطيع أن يلم بجميع أبعاد الموضوع، ويمزج بدقة بين مكونات المعادلة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية جميعها، ويكون قادراً على ربط التاريخ بالحاضر بالمستقبل، والإلمام بتعقيدات الجغرافيا وفرصها وضغوطها.
والناظر في حال مصر الآن يجد أن هناك رؤيتين مختلفتين لمستقبل الدولة والمجتمع، هاتان الرؤيتان لم يتم التعبير عنهما صراحة، ولم يحدث أن تم النقاش حولهما، ولكن يمكن أن نستشفهما من قراءة المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي في مصر.
الرؤية الأولى التي اعتاد عليها سكان بر مصر على مدى الخمسين سنة الماضية؛ منذ وفاة الرئيس جمال عبد الناصر، رحمة الله عليه، وهي تقوم على فكرة الترميم، والترقيع الدائم والمستمر، دون إضافة جوهرية تحدث تغييراً هيكلياً في الاقتصاد أو في المجتمع. وهذه الرؤية هي التي تعشعش في عقول وقلوب الشعب، ونخبه المثقفة، وطبقاته المتعلمة.
أما الرؤية الثانية وهي التي يتم تحقيقها في الواقع دون الحديث عنها، ودون شرحها أو تفسيرها، ودون أن يكون هناك جهاز إعلامي أو ثقافي يقدمها للشعب كما حدث في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وهي رؤية تقوم على بناء مصر جديدة بعيدة هناك في الصحاري التي ظلت مهجورة لآلاف السنين.
الرؤية الأولى لمستقبل مصر تحلم بإصلاح وترميم البقعة الجغرافية التي يعيش فيها المجتمع المصري، وتجديد البنية التحتية والطرق والشوارع والمواصلات، وتحلم بتعليم جيد يحمي الفقير من ضياع دخله البسيط على الدروس الخصوصية، وتوفير خدمات صحية بأسعار مناسبة لأصحاب الدخول المحدودة، وفتح المجال لأبواب الرزق؛ حتى لو جاء من مهن هامشية، أو من عمل خارج إطار النظم والمعايير، المهم أن تترك الدولة العباد يرزق بعضهم بعضاً بأي كيفية يشاؤون.
والرؤية الثانية ترى أن يصبر الشعب قليلاً، أو كثيراً، ويحتمل بعض الصعاب لأنه سوف يتم تغيير حياته تغييراً كاملاً، سوف ينتقل نقلة زمانية تقاس بالعقود والقرون؛ سوف تتاح له فرصة الحياة بصورة كريمة، وراقية تناسب العصر، وتنافس ما هو موجود في العالم المحيط بمصر. لأنه سوف يتم بناء مصر جديدة ينتقل إليها من يستطيع، ليتسع مجال الحياة لمن لا يستطيع، ويصير من يستطيع ومن لا يستطيع في بحبوحة من العيش بصورة تلقائية.
هذه الرؤية الثانية تحققت تاريخياً في اليابان؛ ولليابان قصة مع الصعود والهبوط، مع القوة والانهيار إلى حد الدمار.. ثم النهوض بسرعة فائقة، والقفز خطوات إلى العلا حتى تصير على قمة هرم العالم.. فماذا حدث في اليابان يتعلق بمصر وما تمر به اليوم؟
القصة أنه كان في اليابان خطوط سكك حديدية للقطارات بدأت منذ 1872، ثم انهارت تماماً مع الحرب العالمية الثانية، وبدأ بعد الحرب نوع من الترميم والإصلاح، والتوسعة لهذه الشبكة، وفي لحظة حاسمة في ستينيات القرن الماضي وجدت اليابان أن فكرة الإصلاح والترميم مكلفة جداً، ولا تحقق الاستدامة، فما يتم إصلاحه اليوم يتعطل بعد فترة.. وهكذا، لذلك قررت أن تترك القديم كما هو يعمل في حدود طاقته بدون أن تنفق كثيراً على تجديده وتطويره، وأن تنشئ خطوط سكة حديد جديدة بقطارات جديدة؛ تقوم على تكنولوجيا جديدة، تعمل بالطاقة النظيفة، وليس بالمازوت أو الفحم، وأن تترك للناس حرية الاختيار بين القطار القديم والقطار الجديد، وكلاهما يذهب لنفس الاتجاهات، وينطلق من أماكن متقاربة.
ومع الزمن بدأ الذين يشتكون من سوء القطار القديم، وتهالك خدماته ينتقلون لاستخدام القطار الجديد.. ومع الزمن ترك اليابانيون القطار القديم كلية، ودخل هذا القطار المتحف، وتم تفكيك سكته الحديدية، وانتهى القطار القديم.. وصارت هذه التجربة نموذجاً ومثلاً عالمياً، يطبقه الناس في كل مناحي الحياة.
جميع مجالات الحياة تنطبق عليها نظرية قطار اليابان الجديد، وهذا ما تعمل الرؤية الثانية على أن تسير فيه مصر في قادم أيامها، فقد وصل التهالك والانهيار في جميع المجالات إلى حد لا يصلح معه الإصلاح، ولا يفيد فيه الترميم، لذلك لا بد من التوقف كلية عن إهدار الأموال على القطار القديم، أو على ما هو قائم في الدولة، جميع مجالاتها عشوائيات، مصر تحتاج إلى أن يتم إنشاء متوازيات لكل ما هو موجود، تحتاج إلى إنشاء مستشفيات جديدة بمفاهيم جديدة يقوم عليها أطباء وهيئة تمريض وإدارة جدد، ونحتاج إلى إنشاء مدن جديدة بمفاهيم حياة جديدة، ونترك ما هو قائم حتى تتوازن كثافته السكانية مع إمكاناته الموجودة حالياً؛ حينها يمكن الإصلاح والترميم. نحتاج إلى سكك حديدية جديدة بمفاهيم وتكنولوجيا ومسارات واتجاهات جديدة.
مصر تحتاج إلى أن تتبع نظرية قطار اليابان الجديد، وإلا ستظل تستنشق دخان فحم القطار القديم حتى يقتلها السواد. ولكن لا بد أن يتم هذا بقدر كبير من المراعاة لحياة ركاب القطار القديم، أي الذين يعيشون في المجتمعات المصرية التي صارت قديمة، ولا يتم تمويل ذلك من خلال إرهاقهم مالياً، وأن يكون هناك جهاز إعلام قوي وحديث ومناسب للقطار الجديد، ومؤسسات ثقافية تشرح للشعب حقيقة ما يجري وتغرس في نفسه الأمل الواسع الفسيح المبهج بمستقبل أفضل له ولأولاده.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة