الحقيقة أن المرجعية "الديمقراطية" لمناقشة "الرجال الأقوياء" ليست حوارا بين أفكار متعارضة بقدر ما هي جزء من الصراع السياسي الجاري
العدد سبتمبر/أكتوبر ٢٠١٩ من مجلة "الشؤون الخارجية" الأمريكية سوف يتصدر غلافه صورة مجموعة من "الرجال الأقوياء" الذين يحكمون دولا مختلفة من العالم، يتصدرهم الرئيس الصيني تشي جين بينغ، والآخر الروسي فلاديمير بوتين، وبعد ذلك السلسلة المعروفة من رجب طيب أردوغان في تركيا ورودريجو دوارتيه في الفلبين، وفيكتور أوربان في المجر.
بالطبع هناك آخرون ينتمون إلى الفئة نفسها من القادة مثل بوليسنارو في البرازيل، ونيراندرا مودي في الهند، ونيكولاس مادورو في فينزويلا. عنوان العدد الخاص من الدورية المرموقة هو "الأتوقراطية الآن"، ولأنه بضدها تعرف الأشياء فإن المرجعية الأساسية للعدد كله هي "الديمقراطية" و"الليبرالية" في عمومها كفلسفة للسياسة والحياة.
الحقيقة أن المرجعية "الديمقراطية" لمناقشة "الرجال الأقوياء" ليست حوارا بين أفكار متعارضة بقدر ما هي جزء من الصراع السياسي الجاري في الدول الديمقراطية ذاتها حول التعامل مع قضايا معاصرة مثل الإرهاب، والمنافسة في السوق العالمية والهجرة واللاجئين
هناك صرخة عامة سارية الآن في معظم الدوريات السياسية الغربية بدأت من مناقشة أزمات الديمقراطية والليبرالية في العالم ثم انتهت إلى استعراض الحالة العالمية في انتشار أشكال الحكم "الديكتاتوري" و"الأتوقراطي"، وأنواع متعددة من "الطغيان" أو Tyranny.
وفي العموم فإن هناك القليل من التحليل حول ما الذي جعل العالم ينحو إلى هذا المنحى بعد أن كان المرصود هو الانتقال إلى ما كان معروفا بالموجة الثالثة من الديمقراطية، في أعقاب الأولى التي جاءت بعد الحرب العالمية الأولي، والثانية التي حلت بعد الحرب الثانية، والثالثة التي اجتاحت الدنيا بعد انتهاء الحرب الباردة.
وفي مقال "ياشا مونك" في هذا العدد بعنوان "وقفة الديكتاتوريين الأخيرة، لماذا الأوتوقراطيون ضعفاء أكثر مما نعتقد؟"، فإن المعلومة الصاعقة هي أنه لأول مرة منذ نهايات القرن التاسع عشر فإن الناتج المحلي الإجمالي للأوتوقراطيات الآن تساوي أو تفوق ذلك الذي يخص الديمقراطيات الغربية.
ويستند هذا المقال، كما هو الحال في مقالات أخرى، إلى ما أوردته مؤسسة "بيت الحرية" في الولايات المتحدة "أن العالم يمر بالعام الثالث عشر من «الانكماش الديمقراطي». الديمقراطيات انهارت في كل إقليم من بوروندي إلى المجر ومن تايلاند إلى فنزويلا، ما هو مزعج تماما أن المؤسسات الديمقراطية أثبتت بشكل مدهش رخاوتها في بلاد بدت فيه مستقرة وآمنة".
هذه المرجعية "الديمقراطية" للبحث في حالة "الرجال الأقوياء" تبدو منطقية، ومنها رصد نقاط "الضعف" الواردة في مقال "ياشا مونك" المشار إليه؛ حيث تكون "الشرعية" هي نقطة الضعف الأساسية لدى الديكتاتوريات، والتي يجري إحكامها بعد ظهور أزمات عدم الوفاء بالوعود، وضعف الإنجاز، وعدم القدرة على مواجهة المعضلات الكبرى التي تحتاج إلى الكثير من المشاركة الشعبية وليس "الشعبوية" السياسية.
ومع ذلك فإنها تظل قاصرة في تفسير الظهور المفاجئ للظاهرة كلها بعد سنوات كانت فيه المسيرة السياسية العالمية تسير في الاتجاه المضاد، بل إنها لا تفسر ظهورها في بلدان ديمقراطية عريقة مثل المملكة المتحدة التي لم تقرر فقط الخروج من أكبر مؤسسة عالمية ديمقراطية عرفها التاريخ (الاتحاد الأوروبي الموسع بحكم الرغبة والإصرار البريطاني علي توسيع الاتحاد ليشمل دول أوروبا الشرقية كلها)، ثم بعد ذلك عجز رئيسة الوزراء البريطانية "تريزا ماي" في التوصل إلى اتفاق سلمي للخروج الديمقراطي، لكي تسلم الراية لآخر الرجال الأقوياء في العالم "بوريس جونسون" الذي عطل البرلمان لكي يستطيع الخروج من الاتحاد دون التورط في انتخابات جديدة يعود فيها الشعب البريطاني إلى مناقشة "البريكسيت" مرة أخرى.
وبالتأكيد فإن المرجعية لا تفسر الظهور المفاجئ لدونالد ترامب في الساحة السياسية الأمريكية، فلم تكن الولايات المتحدة تعيش فترة تراجع اقتصادي، ولا كانت في لحظة هزيمة عسكرية، ومهما كانت التحفظات حول "هيلاري كلينتون" فإنها سليلة المؤسسة الديمقراطية الليبرالية الأمريكية، وفي الحقيقة أن التصويت في النهاية لم يكن ضدها، وإنما ضد المؤسسة التي تنتمي إليها.
والمرجح أن المصوتين كانوا مناصرين لدونالد ترامب الذي كان أول من روج في الانتخابات التمهيدية للرئاسة الأمريكية عام ٢٠١٦ لتعبير "الرجال الأقوياء"، في مواجهة ما رآه الشخصيات الرخوة والضعيفة الحاكمة في مجتمعات غربية عديدة، لم يكن لديها الشجاعة لاتخاذ قرارات صعبة.
الحقيقة أن المرجعية "الديمقراطية" لمناقشة "الرجال الأقوياء" ليست حوارا بين أفكار متعارضة بقدر ما هي جزء من الصراع السياسي الجاري في الدول الديمقراطية ذاتها حول التعامل مع قضايا معاصرة مثل الإرهاب، والمنافسة في السوق العالمية، والهجرة واللاجئين، والعنف، وحقوق الأقليات.
والفصل الخاص بالموضوع في كتب السياسة والتاريخ هو في حقيقته عن دور الفرد في التاريخ، الذي كثيرا ما كان جزءا من الجدل عما إذا كان منافسة ما بين الفرد "العظيم" أو "القوي"، والظروف الموضوعية التي تراوحت ما بين "تكوين الأمة" والديالكتيك الخاص بتطور الأفكار وقوى الإنتاج والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية.
هذه الأخيرة نجدها شائعة للغاية في الفكر الماركسي واليساري بوجه عام، ومع ذلك فإنه في واحد من خطابات "إنجلز" الأخيرة فإنه أشار إلى أنه رغم تركيزه مع ماركس على هذه الأمور في النظر إلى حركة التاريخ، فإنهما لم يستبعدا تماما أدوارا ولحظات تلعب فيها "الصدفة" و"الفرد" أدوارا محورية! فهل هذه اللحظة من التاريخ من تلك اللحظات الاستثنائية التي بزغ فيها دور الفرد، والرجل القوي، مرة أخرى للقيام بدور لا يقوم به أحد آخر؟ وأن الديمقراطية في العالم في تلك اللحظة من الرخاوة والضعف والتفكك التي جعلت "اسبرطة" تنتصر على "أثينا"، والتي كانت هي الأخرى صراعا بين الديمقراطية "المباشرة" و"السلطوية" الطاغية.
الثابت أن الأغلبية من حالات "الرجال الأقوياء" جاءت من رحم الديمقراطية (بوتين وترامب وأردوغان ودوارتيه وأوبان وبولسينارو وغيرهم)، وحتى في الحالات التي جاءت من تقاليد "سلطوية" مثل الحزب الشيوعي الصيني بالنسبة لتشي جين بينغ، فإنه لم تكن هناك اعتراضات شعبية كبيرة على حكمه، والتي ثبت من تجارب "الربيع العربي" أنها بالفعل قادرة على إسقاط من ترفضه من السلطة.
والثابت أيضا أن معظم "الرجال الأقوياء" أتوا من رحم أزمات كبري جاء هؤلاء للخروج منها أو مواجهتها، فالثورة الثقافية في الصين خلقت جيلا من الزعماء والقادة الذين كان عليهم الخروج بالصين من الهوة التاريخية التي وصلت إليها، وفترة الإذلال المهينة لروسيا تحت حكم "يلتسن" هي التي فتحت باب السلطة والسلطوية لبوتين للخروج بالدولة مرة أخرى لكي تكون في نادي القوى الكبرى، وفي كثير من الدول الغربية فإن الجنوح نحو اليمين القومي وما أنتجه من شخصيات قوية كان نتيجة الضغوط الكبيرة التي نتجت عن العولمة من هجرة ولاجئين، فضلا عن المصنع العالمي التي حرمت مناطق عمالية من فرص العمل ورفعة الأجور.
ومن الثابت ثالثا أن المسيرة العالمية الديمقراطية الليبرالية خلال العقد الأخير من القرن العشرين والعقد الأول من الألفية الثالثة خلقت نوعا من "الأصولية" الخاصة بها والتي أقدمت على خلق تقاليد وأعراف لم يكن بقدرة المجتمعات المختلفة ابتلاعها، وبشكل ما فإن "الأصوليات" الليبرالية حركت بدورها نوازع متطرفة، بل إنها خلقت أصوليات مضادة، ظهرت في الدور الذي بات فيه "الإنجيليين" يلعبونه في السياسة الأمريكية، والأصوليون الإسلاميون في دول أخرى، وبشكل ما فإن التركيز على الحقوق الفردية، والتأكيد على المساواة، أنتج الكثير من المنافسات الصراعية التي لم تصل فيها المجتمعات البشرية إلى النضج الكافي لاستيعابها، فكان التفكك الأسري، ومعه الصراعات الطائفية، والعودة الحادة للتمييز العنصري.
ومن الثابت رابعا أن التطور التكنولوجي العالمي يلعب دورا كبيرا في ظاهرة "الرجال الأقوياء"، وليس كما كان شائعا أن التكنولوجيات الرقمية في عمومها أعطت فرصا كبيرا للإنسان لكي يستطيع التعبير عن نفسه والمشاركة في البناء السياسي والاقتصادي، وباختصار للممارسة الديمقراطية. ووفقا لما جاء في كتاب "يوفال هاريري" (٢١ سؤالا في القرن ٢١) فإن هذه التطورات التكنولوجية ذاتها هي التي أعطت للشخصيات القوية قدرات هائلة للتواصل والتعبئة والتأثير في العمليات الانتخابية.
والحقيقة أن الحوار لا يزال في بدايته، وما زلنا تحليليا في فترة الانطباعات الأولية، ولكن ظاهرة "الرجال الأقوياء" سوف تظل مؤثرة في المستقبل السياسي للكوكب خلال السنوات القليلة المقبلة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة