تدرك جماعة الحوثي الإيرانية أن الحدث الاستثنائي الشاذ الذي سمح لها بالسطو على العاصمة صنعاء لن يتكرر مرة أخرى.
تدرك جماعة الحوثي الإيرانية أن الحدث الاستثنائي الشاذ الذي سمح لها بالسطو على العاصمة صنعاء ومحافظات أخرى، بكل ما تحويه من مؤسسات سيادية، وإسقاطها تحت سيطرة "مليشياوية" في الإدارة والتنفيذ والعقيدة والتبعية، وما يمثله ذلك من اعتبار معنوي اجتماعي وجيوسياسي تاريخي، لن يتكرر مرة أخرى.
وهي الفرصة التي توفر معها خصوم في شتات وحالة انتقام، وسقوط قيمي لمجتمع أنهكته عبثية خصوم السياسة، وتجار الدين، ومرتزقة المليشيات، وأمراء الحروب، فجعلته مجتمعاً قابلاً للتبعية والانصياع بالترهيب والترغيب، دون مقاومة أو تأثير أو حتى حضور يحافظ فيه على السمعة التاريخية لنضال الأجداد، الذي يبدو أنها تأتي ضمن تزوير التاريخ الذي أوحى لنا يوماً ما أنه تاريخ من النضال والمقاومة، وما لبث أن تبين لنا أنها من قصص و"حكاوي" أبوزيد الهلالي التي لا تخرج عن إطار الأسطورة المركبة التي لم تغادر صفحات الكتب أو قصص كبار السن.
قد يتهمني البعض بالقسوة تارة، أو بالمبالغة تارة أخرى، ولكني بصدق وأمانة التوثيق التاريخي، لم أقدم حتى واقع الحقيقة الحاصلة، والتي باتت أحداثها تدار يومياً في مشاهد من الصدمة التي لم يكن أحد يتوقعها أو حتى يتخيلها ضمن خيالات السقوط السياسي والإنساني.
أجزم بأن التهاون في هذا السقوط، وعدم مقاومته سيولد مستقبلاً من الثأر الطائفي الممنهج، الذي سيخلق جيلاً من الجهلاء والمقاتلين الفقراء، وسيفتح على اليمن مستقبلاً مجهولاً غامضاً ومنسياً، ولن يغفر التاريخ والجغرافيا لليمنيين خطيئتهم.
إن إمعان وإصرار جماعة الحوثي في تحقيق مآربها الهدامة للمجتمع، والساعية للانتقام من الإنسان اليمني، والعبث بالأرض والحجر والثروة، وتحقيق غايتها عبر تحوير المفاهيم وتبديل المعتقدات وتغيير الأفكار والميول والاتجاهات العامة الاجتماعية والسياسية والدينية، في نسيج مجتمع – وأقصد شمال الشمال تحديداً- ذله العوز والفقر، وأرهبه القمع والقتل، وفرقته خلافات السياسة ودعوات الحزبية والعنصرية وتشدد الدين والأيديولوجيا.
بل إن هذا التدمير بات أكثر تأثيراً في السعي نحو استهداف الشريحة الأكثر خطورة، من طلاب المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية؛ باعتبارهم صناع المستقبل وبناة العقود القادمة لليمن، الذي كنا نحلم به لبناء أجيال من المتعلمين ورواد الفكر والثقافة والعلوم، قابله للأسف والحسرة سعي الحوثيين إلى ترسيخ مبادئ الكهنوت والعنصرية والصفوية لنسل وعرق جاهلي يدَعون فيه الأفضلية باعتبارهم من البطنين، دوناً عن أبناء اليمن من اليمنيين الأقحاح.
يعمد الحوثيون باستهداف ممنهج وخبيث في إعادة صياغة وإضافة وتعديل المناهج الدراسية والكتب المدرسية عبر زرع عناصرهم من المدربين على التأثير وغسيل العقول في أخطر حقول العلم وفروع العمل التعليمي والتربوي، من خلال محاضرات ودروس "التثقيف" الشائك بأحاديث ضعيفة مردود عليها، وتفسيرات مغلوطة للآيات، وبعض ما جاء في الأثر عبر تمجيد شواذ ومنبوذي التاريخ والدول والحضارات.
كما أنهم يديرون مسار العمل الأكاديمي في جامعة صنعاء بالتحديد، عبر إقحام عناصرهم، وتغيير بعض مفردات ومحاور المواد في المجالات الأدبية والنظرية والتاريخية، ومن خلال فرض مقررات المواد الإلزامية والتي تدرس لجميع الكليات العلمية والنظرية والأدبية، باعتبارها مواد مكملة للسجل الأكاديمي، مثل تلك المواد التي كنا ندرسها كالثقافة الإسلامية والغزو الثقافي، واليوم باتت ملازم جماعة التطرف الحوثية ومنظريها فرضاً للدارسين والطلاب، والأمثلة لا حصر لها.
ليس هذا فقط بل حتى موظفي الدوائر الحكومية، والمديرين والقيادات الوسطية من وكلاء ووكلاء مساعدين، بات يفرض عليهم حضور دورات غسيل الأدمغة، وأصبح تقليداً أسبوعياً مثل الاجتماعات الدورية واللقاءات العامة، للاستماع لهزل الكلمات وعبث التأثير المشوه على الأفكار والمعتقدات، في توجه متطرف، وأقل ما يقال عنه إرهاب فكري اجتماعي، ولكم أن تتخيلوا إن حاول أحدهم الرفض أو المقاومة.
هذا كله بالإضافة إلى التأثير على محدودي التعليم والثقافة والأنصار المغيبين عن القدرة على التعبير أو إبداء الرأي.. وهنا تكمن علامة الاستفهام الكبيرة، أين نحن من كل ذلك التأثير على أكثر مناطق اليمن كثافة سكانية، وفقر مدقع، وعوز لا حدود له، وجهل كبير بالوراثة، لمناطق عرف عنها أنها البارود للحروب والتجنيد والحشد القبلي والمذهبي، والتفاخر بذلك.
إن هذا الاستهداف الأيديولوجي والمذهبي والطائفي المباشر والمتعمد لشرائح المجتمع المختلفة، عبر التعليم والمدارس والجامعات والمساجد والوظيفة العامة، واللقاءات والمناسبات الاجتماعية، يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن سعي هذه الجماعة للتأثير على أفكار النشء والأجيال القادمة عبر استغفال رواد ونخب وقيادات المجتمع الصامتة فرضاً وقمعاً وخوفاً أو تأييداً ومناصرةً، والتي كنا نعتقد أنها ستقاوم نصرةً للقبلية التي استنزفت الدولة وعبثت بها، أو للحزب الذي وظفته لعقود طويلة لمصالحها، أو للزعيم الذي تركته وحيداً يواجه مصيره، أو حتى للدولة واليمن والوطنية الغائبة، التي ما لبثت فقدت كل معيار للسيادة والولاء.
وفي هذا الصدد أجزم بأن التهاون في هذا السقوط، وعدم مقاومته سيولد مستقبلاً من الثأر الطائفي الممنهج، الذي سيخلق جيلاً من الجهلاء والمقاتلين الفقراء، سيفتح على اليمن مستقبلاً مجهولاً غامضاً ومنسياً، ولن يغفر التاريخ والجغرافيا لليمنيين خطيئتهم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة