سيظل المخطط التركي في العالم العربي قائما ومستمرا، ولن يتوقف، وسيعمل على مساحات ممتدة في دول الجوار وخارجه.
لا يريد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن يتفهم طبيعة وخصوصية العلاقات العربية التركية، ويتصرف وكأنه ما زال السلطان العثماني ولا تزال تركيا إمبراطورية تضم ممالك ودولا وجمهوريات تابعة لبلاده، ومن ثم فإنه يتحرك من هذا المنطلق الوهمي، رافضا أن يكون دولة جوار إقليمي للدول العربية تربطها بها علاقات جيدة، وعليه أن يقدم على الالتزام بحقوق وثوابت العلاقات التاريخية.
وفقا للنسق العقيدي الفكري للرئيس رجب طيب أردوغان وقيادات حزب العدالة والتنمية فإن الذهاب بالعلاقات التركية العربية يجب أن يأخذ مسارات واتجاهات داخلية، واعتمادا على نموذج التدخل في شؤون العلاقات العربية الداخلية، حيث لم تترك تركيا مشكلة عربية ولا تحولا عربيا داخليا لم تتدخل فيه، أو تقوم بممارسة دور غير مشروع؛ اعتمادا على رؤيتها وعلى برنامج حزب العدالة والتنمية الذي يقر التدخل بكل صوره، والوجود من منطلق أن تركيا دول عظمى إقليميا شأنها شأن إسرائيل وإيران.
من هذا المنطلق، فإن تركيا سمحت لنفسها بالتدخل ومناكفة دول عربية مثل مصر التي لا تزال تناكف نظامها السياسي الراهن، ولا تريد أن تكف عن أسلوبها المرفوض عربيا في التدخل، وتنصيب نفسها وكأنها صاحبة الولاية الحقيقية على مقاليد الأوضاع داخل الدول العربية، ومن ثم فإنها تؤوي قيادات المعارضة الإخوانية الإرهابية، وتدعم الحضور الإعلامي والسياسي لوجوه التنظيم الدولي لجماعة الإخوان الإرهابية، وترفض أي دعوات عربية مخلصة بالتراجع عن نهجها، بل تتمادى في طرح خيارها التدخلي لمصلحة نموذج ثبت فشله واقعيا.
المطلوب رسالة عربية حاسمة من الجامعة العربية تجاه تركيا، وفي إطار مراجعة عربية مطلوبة وواجبة لواقع ومستقبل العلاقات العربية التركية بأكملها
تتحدث تركيا عن المشروع التركي للهيمنة والسعي للتحكم في أوضاع الدول العربية، ومن ثم فإن الرئيس رجب طيب أردوغان يعمل في اتجاهات عدة، سواء مع دول الجوار وخارجها وسواء كانت دولا يقيم معها علاقات حقيقية، أو حتى يخطط للتعامل، كما أنه يبحث عن موطئ قدم يمكن أن يثبت صحة توجهاته، وما يمكن أن ينتهي إليه، ولعل جولاته الأخيرة، وتحركاته في أفريقيا تحديدا خطوة على هذا الطريق، خاصة وأنها تأتي في سياقات إقليمية حقيقية، ومرحلية لإعادة ترتيب الأجواء السياسية والاستراتيجية في الشرق الأوسط وأفريقيا وجنوب الساحل، حيث امتدادات التنظيمات الإرهابية التي لا تنأى تركيا عنها، بل تمول بعضها، وتسعى لإيجاد ترابطات استراتيجية وأمنية واضحة، ولا تريد أن تسلم بأن طبيعة ومهام الدول الكبيرة عن حق أن تتعامل بمنطق التعاون لا المواجهة.
في حالات عدة يقف المشروع التركي متناقضا ومتضاربا مع توجهاته؛ يتحدث عن حق الشعوب في التحرر والحريات والقيم الإنسانية والديمقراطية والتسامح، ومع ذلك يمارس سياسات معاكسة تماما داخل تركيا التي كمم فيها الأفواه، وأغلق مساحات الديمقراطية والحريات وزج بالعشرات في السجون والمعتقلات، وما زال رافضا لأي مساحة من التقارب مع منظمات المجتمع المدني والإعلاميين والسياسيين والقضاة وغيرهم، ولم تعد ملاحقاته الأمنية مقتصرة على حركة فتح االله كولن فقط..
مثال آخر، عندما ذهب الجيش التركي في مواجهاته الأخيرة في سوريا، ومضى في خياراته التي لم تنتهِ في عفرين، كان السؤال: ماذا يريد الرئيس أردوغان من حضوره الاستراتيجي والأمني في سوريا؟ وهل الأمر متعلق بالسياسات المستقبلية للدور التركي في سوريا والعراق، وفي مناطق التماسّ؟ أم أن الأمر مقتصر على تطورات المسألة الكردية بكل وقائعها المعقدة التي تحتاج إلى استشراف سياسي؟ ورصد لطبيعة الدور التركي القادم وأطماعه في المنطقة، وليس في سوريا والعراق والخليج العربي فقط، خاصة أن الرئيس أردوغان ينتقل الآن بالمشروع التركي التدخلي إلى مرحلة جديدة من تنفيذ سياسات عاجلة، ومنها حضوره الراهن في السودان وجنوب الساحل من جانب ومنطقة شرق أفريقيا من جانب آخر، ومحاولة نقل رسائل لدول كبيرة في الإقليم مثل السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومصر، وهو ما يجب الانتباه إليه والتعامل معه بجدية كاملة، وليس فقط التحذير أو التنويه للممارسات التركية غير المشروعة، أو التحذير من الصراع على الحضور الاستراتيجي المكثف والمتنامي، والعمل على تنفيذ ما يخطط له حزب العدالة والتنمية وعبر منظِّرين أتراك معروفين بالاسم يخططون للرئيس أردوغان، ويدفعونه دفعا لإحياء العثمانية الجديدة، والتي ترتكز على النفعية السياسية، وحسابات المكسب للدولة التركية التي يتحرك من خلالها الرئيس أردوغان مدعيا أنه يحقق المصالح العليا لدولة كانت في يوم ما إمبراطورية كبيرة تضم دولا عديدة.
ولعلي هنا أشير إلى ما قاله الدكتور أنور قرقاش، وزير الدولة للشؤون الخارجية في دولة الإمارات، عندما أشار وبعمق إلى أن العالم العربي لن يُقاد من جواره، وعلى دول الجوار أن تميِّز في التعامل مع العرب بين الحقائق والأساطير، وهذه هي قمة المشكلة في الوهم السياسي الذي يعيشه الرئيس أردوغان الذي يريد أن يؤكد أنه السلطان العثماني الجديد، برغم كل ما يقوم به من تربيطات سياسية واستراتيجية مع الناتو من جانب، ومع دول مثل روسيا والولايات المتحدة، حيث لا توجد مساحات كبيرة للتناقض أو الاختلاف التي يريد أن يوهم بها الشعب التركي ليؤكد استقلالية القرار التركي الذي ما زال يدور في إطار من الحسابات والمصالح جنبا إلى جنب مع حالة التبعية التي تعيشها تركيا في نطاق التحالف الأمريكي التركي الذي ثبت مؤخرا أنه جزء من تكتيك سياسي حقيقي يعمل عليه الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية داخليا وخارجيا، ومن ثم فإن ما قامت به تركيا من إطلاق اسم "غصن الزيتون" على الشارع التي توجد فيه السفارة الأمريكية في أنقرة؛ في إشارة إلى العملية العسكرية التي تطلقها تركيا ضد مقاتلي وحدات حماية الشعب الكردية التي تحظى بدعم الولايات المتحدة يصب في هذا الاتجاه الوهمي؛ للإيهام بوجود تباين في الرؤى، والذي يُبقي على مساحة الخلاف الشكلي في سوريا مؤقتا بين الجانبين التركي والأمريكي.
سيظل المخطط التركي في العالم العربي قائما ومستمرا، ولن يتوقف، وسيعمل على مساحات ممتدة في دول الجوار وخارجه، وسيشمل خطابا سياسيا واستراتيجيا وإعلاميا تصعيديا، وعلى مستويات عديدة تجاه العراق وسوريا ومصر ودول الخليج، وفي دوائر التأثير والنفوذ الجديدة التي تتحرك فيها الدولة التركية في الوقت الراهن؛ من أجل تأكيد مكانتها ونفوذها الجديد بناء على توجهات الرئيس رجب طيب أردوغان الذي يريد فرض قيادته سواء في داخل تركيا أو خارجها، معتمدا على ما يسوق له داخليا بخطاب حماسي يخلو بالفعل من مضمون حقيقي أو إطار أيديولوجي واقعي، ويعيد طرح خصوصية الدولة التاريخية وتاريخها القديم في الإقليم بأكمله، ومن خلال نموذج من التدخلات غير المقبولة أو الممارسات غير المشروعة التي ترفضها الدول العربية على كل المستويات، وهو ما يوجب على الدول العربية أن تنقل للرئيس أردوغان -بصورة مباشرة وفعالة وعبر كل القنوات الدبلوماسية والإعلامية- رسائل الرفض والتحفظ للنهج التركي، وعدم الاكتفاء بالتعامل مع التدخلات التركية على أنها قدر، وأنها أمور يجب التسليم بها.. والمطلوب رسالة عربية حاسمة أيضا من الجامعة العربية تجاه تركيا، وفي إطار مراجعة عربية مطلوبة وواجبة لواقع ومستقبل العلاقات العربية التركية بأكملها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة