إصرار في الإعلام الرسمي التركي على إبراز أهمية التقارب التركي الأفريقي، الاقتصادي والسياسي في العقد الأخير
في الوقت الذي كانت بعض الأقلام التركية المقربة من الحكومة تدعو إلى إنشاء وزارة جديدة تحت مسمى "وزارة الشؤون الأفريقية" لترجمة الانفتاح التركي على القارة السمراء في السنوات الأخيرة، كانت أقلام أخرى في المعارضة ترد بشماتة، وهل قررت "وزارة الشؤون الأوروبية " التخلي عن مهمتها بعد إعلان الكثير من العواصم والمؤسسات الموجودة تحت سقف الاتحاد الأوروبي استحالة قبول أنقرة في هذه الأجواء والظروف كعضو شريك لها، والبحث عن جهة سياسية واقتصادية بديلة تسد هذا الفراغ الاستراتيجي الكبير؟
إصرار في الإعلام الرسمي التركي على إبراز أهمية التقارب التركي الأفريقي، الاقتصادي والسياسي في العقد الأخير، لكن هناك من يقول إن المجموع العام لحجم التبادل التجاري بين تركيا ودول القارة الأفريقية بأكملها يبلغ 25 مليار دولار فقط في الوقت الراهن. .
في مطلع العام ألفين كان الرقم لا يتجاوز 2.5 مليار دولار وربما هو إنجاز تجاري واقتصادي مهم؛ لكن الحقيقة أيضاً أن ما أُنجِز مع أكثر من 50 دولة من أرقام تجارية يكاد يصل إلى نصف حجم التبادل التجاري التركي مع ألمانيا، ويزيد بقليل عن أرقام العلاقات التجارية بين تركيا وإيران؛ رغم كل ما نسمعه ونقرؤه حول توتر العلاقات والانتقادات السياسية والهجمات الإعلامية اليومية المتبادلة بين البلدين.
الإنجاز الأهم برأينا هو ليس تجارياً اقتصادياً حتى الآن، رغم أن وزير الاقتصاد التركي نهاد زيبكشي يتحدث عن هدف رفع حجم التبادل التجاري بين تركيا ودول المجموعة الاقتصادية إلى 3 أضعاف في السنوات القليلة المقبلة، بل هو سياسي دبلوماسي حيث نجحت أنقرة في رفع عدد بعثاتها الدبلوماسية في القارة السمراء من 12 ممثلية عام 2003 إلى 41 سفارة.
قد تكون هناك مبالغة في الحديث عن كل هذه الخطط والمشاريع التركية في أفريقيا، ويكون الهدف التركي مجرد الدخول إلى ساحة السباق والتنافس العالمي الاقتصادي على الأسواق الأفريقية، وبالتالي محاولة الخروج من العزلة التي تعيشها أنقرة وتعويض خسائرها بسبب توتر علاقتها مع أوروبا والولايات المتحدة ودول المنطقة
بعد استراحة قصيرة من جولته الأفريقية التي شملت السودان وتونس وتشاد في أواخر ديسمبر / كانون الأول الماضي، والتي أثارت في شقها السوداني الكثير من النقاشات السياسية، واصل الرئيس التركي رجب طيب أردوغان خطة التحرك في القارة السمراء باتجاه غربها هذه المرة.
4 دول كانت هدفاً للدبلوماسية التركية، دولتان بهدف توسيع رقعة التعاون وترسيخه، وهما الجزائر والسنغال، ودولتان من أجل التأسيس لانطلاقة جديدة هما مالي وموريتانيا.
منهجية التحرك التركي في أفريقيا بدأت في العام 2005 مع هيئات الدعم والإغاثة ومنظمات المجتمع المدني، والمساعدات مثل "تيكا" ومنظمة الإغاثة الإنسانية والهلال الاحمر التركي، من خلال سياسة القوة الناعمة، أي عبر توظيف البعثات الإنسانية والصحية التي ترسلها إلى القارة، هذا إلى جانب حركة الانتشار الواسع للطيران التركي في سماء القارة الذي تضاعف عدد رحلاته في أكثر من 50 مدينة أفريقية.
التحرك كان يقوم عبر المناطق الأفريقية الأقرب إلى تركيا دينياً وسياسياً واقتصادياً وتاريخياً؛ لينتقل إلى دائرة أخرى بحسب حسابات الربح والخسارة، كانت دائماً الدول الأفريقية الأكثر نفوذاً وثقلاً هي هدف الانتشار والتمدد التركي، وعلى رأسها الجزائر وتونس والسودان والمغرب، الدول الصغيرة والفقيرة مثل موريتانيا ومالي وتشاد جاء دورها متأخراً جداً.
القيادات السياسية التركية تقول إنها لا تقرع باب أفريقيا لمنافسة لاعبين إقليميين ودوليين قدماء سبقوها إلى هناك، مثل فرنسا وإنكلترا وألمانيا أو يملكون الطاقات والقدرات التي لا تملكها هي مثل الصين وأمريكا، بل لأن الفرص متوافرة للجميع، فالقارة الأفريقية مازالت تخفي الكثير من ثرواتها وخيراتها وفيها الكثير من المشاريع التي تستوعب الجميع.
الاستراتيجية التركية في أفريقيا تقوم على 3 مراحل أساسية: التأسيس ثم البناء وبعد ذلك قطف الثمار. تركيا في أفريقيا اليوم تنتقل من مرحلة التأسيس إلى مرحلة البناء والتحضير بهدف الوصول إلى المرحلة الثالثة والأهم وهي قطف ثمار سياستها الأفريقية تجارياً واستراتيجياً.
القيادات السياسية التركية تبحث في أفريقيا عن أكثر من فرصة وهدف سياسي واقتصادي وأمني استراتيجي، بعضها معروف وبعضها الآخر سيظهر إلى العلن في السنوات القليلة المقبلة مع إنجاز عملية التحضير والانتشار:
- في طليعة الأهداف يبرز موضوع إنجاز استراتيجية التمدد التركي بين القارات والمناطق، وطرح الانفتاح على أفريقيا كخيار بديل في حال وصل الحلم التركي في العضوية الكاملة مع المجموعة الأوروبية إلى طريق مسدود.
- ثم هناك البحث عن حصة أكبر للأسواق التركية في القارة من خلال التسويق للمنتجات التركية الصناعية.
- وبعد ذلك يأتي دور التعاون الاستراتيجي السياسي والعسكري وتقديم العروض والترويج للإنتاج العسكري التركي.
- توقيع اتفاقيات تنظيم حركات الهجرة واللجوء السريين، وسبل ضبطها بعد الزيادة الكبيرة في أرقام الدخول غير الشرعي إلى تركيا واعتبار أراضيها محطة عبور إلى العواصم الأوروبية.
- فتح صفحة جديدة مع بلدان القارة وإزالة رواسب التاريخ وعبء العلاقات المتوترة إبان الحكم العثماني.
- المشاركة التركية في برامج الاستثمار في استخراج الطاقة والموارد الأولية وتصنيعها وتصديرها.
- زيادة حصة تركيا في الاقتصاد الأفريقي المتنامي بفضل العائدات التي تجنيها من الموارد الطبيعية التي تمتلكها.
-التعاون في خطط الحرب على تنظيم جماعة غولن التي أنشأت العشرات من المدارس ومراكز التعليم في أفريقيا ووضع اليد على هذه المؤسسات.
- مواصلة تنفيذ قرارات قمة إسطنبول التركية الأفريقية عام 2008 وتحقيق هدف رفع مستوى التبادل التجاري من 40 مليار دولار إلى 100 مليار دولار خلال السنوات القليلة المقبلة.
- دخول تركيا ساحة المنافسة الأمنية والعسكرية في الجغرافيا الأفريقية التي بدأت مع الصومال وانتقلت إلى السودان تمهيداً للبحث عن أبواب جديدة في شمال القارة وغربها هذه المرة، والاستفادة من الموقع الاستراتيجي الموريتاني المطل على مياه الأطلسي.
تركيا تعرف جيداً أن الدخول إلى القارة الأفريقية قد يكون سهلاً ربما؛ لكن البقاء فيها هو الذي سيكون صعباً دون البحث عن حلفاء وشركاء هناك فمع من ستفعل ذلك؟
هل ستكون شراكة أنقرة مع تل أبيب التي سبقتها في التوغل وبناء التحالفات الاقتصادية والأمنية باتجاه تقاسم المصالح والنفوذ؟ أم هي ستختار دولاً أفريقية قوية، مثل مصر للوصول إلى ما تريد رغم معرفتها أن رغبة من هذا النوع تتطلب أولاً المصالحة الكاملة مع القاهرة وإنهاء كل ملفات الخلاف والتوتر، وهي مسألة لن تكون بمثل هذه البساطة؟ أم أن حديث الرئيس التركي عن الجزائر "جزيرة الاستقرار السياسي والاقتصادي في منطقة البحر المتوسط وأفريقيا الشريك التجاري الأول لتركيا في أفريقيا"، يعني أن البوصلة قد تكون باتجاه الجزائر نفسها للدخول في هذه المعادلة الاستراتيجية المبنية على التقاسم والتحاصص، وهنا تبرز "العقدة المغربية" النشيطة في القارة، والتي لن تفرط بمصالحها وحساباتها الإقليمية وسترفض الكثير من محاولات الاختراق الاستراتيجي من هذا النوع والتي ستكون على حسابها؟ أم أن تركيا تبحث عن بناء تكتل تركي أفريقي استراتيجي يجمعها مع العديد من الدول عبر توظيف أكثر من ورقة دينية وتاريخية وسياسية واقتصادية داخل هذه المنظومة، تحت شعار "من يقترب منا خطوة نقترب منه عشر خطوات"؟
قد تكون هناك مبالغة أيضاً في الحديث عن كل هذه الخطط والمشاريع التركية في أفريقيا، ويكون الهدف التركي مجرد الدخول إلى ساحة السباق والتنافس العالمي الاقتصادي على الأسواق الأفريقية، وبالتالي محاولة الخروج من العزلة التي تعيشها أنقرة وتعويض خسائرها بسبب توتر علاقتها مع أوروبا والولايات المتحدة ودول المنطقة، ووصول سياستها في التعامل مع الكثير من الملفات العربية والإقليمية إلى طريق مسدود، بعد سياسات ما سُمي بثورات الربيع العربي التي ألحقت أضراراً بالغة بعلاقات أنقرة مع جيرانها وشركائها مثل سوريا والعراق ومصر وإسرائيل وأميركا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة