ينبغي أن نحدد بدقة كيف تكون المواجهة، ولأي نسق فكري تتوجه، وهذا يستلزم أن نفهم خريطة الدين، وطوبوغرافيته، وتضاريسه الحقيقية.
التطرف فكرة تدخل عقل الإنسان، وتستحوذ عليه، وتنفي باقي الأفكار المضادة لها، فتصير هي الحقيقة كاملة، وكل ما غيرها باطل، ثم تسيطر على الإنسان كله، فتحوله إلى عدو للآخرين الذين لا يؤمنون بنفس فكرته، وقد يقف عداؤه لهم عند المستوى الفكري، وقد يتحول إلى المستوى السلوكي، وهنا يكون التطرف عنيفاً، ثم يتحول إلى إرهاب عندما يصيب السلوك العنيف الأبرياء من البشر الذين لا علاقة لهم بكل ما في عقل ذلك المخلوق؛ الذي تحول إلى لغم بشري ينفجر في أول من يلامس فكرته.
التطرف الفكري ينشأ عادة من نظم تعليمية وثقافية ترى وجهاً واحداً للحقيقة، ولا تؤمن بتعدد الوجوه لها، وتؤمن بأن الحقيقة في كل موضوع واحدة، وهي ما يؤمن به هذا النظام التعليمي أو الثقافي أو ذاك، فكل مجتمع أو مؤسسة تعليمية تربي أبناءها على رؤية واحدة للعالم، ووجهة واحدة للتفكير، ومذهب واحد للتدين تكون هي الأكثر قابلية لإنتاج متطرفين ومتطرفات، ولذلك نجد أن الأزهر الشريف لم يخرج متطرفين بنسبة تتلاءم مع ملايين الدارسين فيه؛ لأنه يقوم على تدريس المذاهب الإسلامية جميعها، ويتيح للمتعلم أن يختار منها ما يشاء.
ومواجهة التطرف الفكري هي الأساس والأصل والبداية الحقيقية لمواجهة التطرف العنيف أو الإرهاب، وذلك لأن المواجهة الفكرية تحول دون تحول التطرف الفكري إلى تطرف سلوكي عنيف، وفي هذه المرحلة تكون المواجهة الأمنية والقانونية هي الأولى، لأن القاعدة المنطقية تقول "الفكر بالفكر... والجريمة بالعقاب"، ولذلك يجب أن تتوجه الجهود لمواجهة التطرف الفكري فور ظهور أولى بوادره ومؤشراته، وعدم الانتظار حتى يتحول إلى تطرف سلوكي عنيف، ويلحق أضراراً بالمجتمع.
وهذه المواجهة الفكرية لها منهج واضح وطريق محدد، بحيث لا تكون وسيلة لخلق التطرف، أو لتغذيته، ولا تكون ذريعة يستخدمها عتاة المتطرفين وكهنتهم لتبرير التطرف الفكري أو العنيف وتسويغه، فكم من محاولات تمت في مختلف الدول العربية، وكان عنوانها مواجهة التطرف الفكري؛ وهي في الحقيقة كانت تغذي التطرف الفكري، وتنشره، وتشجع عليه.
وهنا ينبغي أن نحدد بدقة كيف تكون المواجهة، ولأي نسق فكري تتوجه، وهذا يستلزم أن نفهم خريطة الدين، وطوبوغرافيته، وتضاريسه الحقيقية، لأنه بدون ذلك سيكون الخبط عشواء، وتكون المواجهة مثل حاطب الليل، مرة يمسك بحطب، وأخرى يقبض على رأس ثعبان يلدغه فيموت.
وخريطة الدين الإسلامي تتكون من ثلاثة مستويات هي:
• الإسلام كدين سماوي يعتقد فيه مليار ونصف المليار إنسان، والذي يتضمن العبادات والعقائد، والمقدسات، والثقافة التي أنتجتها المدارس الفقهية على مدى أربعة عشر قرناً، هذا المستوى يمثل المشترك العام بين جميع المسلمين، حيث يعتبرونه ديناً يتعبدون الله به؛ سواء أكان اعتقادهم هذا مطابقاً لصحيح الدين أم لا، المهم أنه دين بالنسبة لهم، وإذا أراد المصلحون تغيير فهمهم وإصلاح فكرهم، وتصحيح ثقافتهم، فيجب أن يتم ذلك بصورة تعليمية وتثقيفية هادئة، يقوم بها أهل الاختصاص، وعلى مدى زمني طويل بدون صدمات، وبدون استفزازات، حتى لا يكون ذلك سبباً لاستثارة عواطفهم، ودفعهم للتفكير بصورة متطرفة، أو الاقتناع بأفكار متطرفة، أو الاستغلال من قبل جماعات متطرفة.
• الإسلام كهوية تميز مجموعة من البشر عن غيرها، وهذا يحدث فقط عندما يكون المسلمون المؤمنون بالدين كما رأينا في المستوى السابق في حالة ضعف أو في موقف تحدٍ، أو في حالة تهديد، هنا يظهر الإسلام كهوية للتمييز عن الآخرين، ولاكتساب الكرامة أو المحافظة عليها، وللحفاظ على الجماعة البشرية من الذوبان في الآخر، هنا يتم الاحتماء بعناصر معينة من الإسلام مثل اللباس، أو الهيئة الشخصية، أو الطعام، أو الأسماء، أو الشعارات، أو الانعزال في مناطق معينة.. إلخ. كلها وسائل للحفاظ على الوجود من خلال تحويل بعض مكونات الدين إلى رموز أو مقدسات يعتبر المساس بها ضياعاً للدين ذاته، وذلك مثل المبالغة في التمسك في الملابس التي يرون أنها إسلامية في مجتمعات أوربا وأمريكا، أو الحرص على الطعام الحلال في دول سكانها من أهل الكتاب.. إلخ. وهنا أيضاً يجب أن يتم التعامل مع هذا الحال من خلال علم الأنثروبولوجيا، وأدوات التغيير الثقافي، وذلك من أجل الوصول إلى حالة من التوافق مع المجتمع العام دون أن تتم التضحية بأسس الدين، وليس بالموروثات الثقافية للمجتمعات المسلمة التي أخذت صفة الدين، وهنا أيضاً يجب أن يتم التعامل مع هذه الظواهر بكل تقدير واحترام، ودون مواجهة، ودون إهانة أو اتهام، لأنها ظواهر ثقافية تعرفها جميع الشعوب، وجميع الجماعات البشرية عندما تتعرض للتهديد الوجودي.
• الإسلام كأيدولوجية سياسية تدعي امتلاك الحقيقة، وتؤمن بسلطة فرضها على الناس، وهذا النموذج يوجد فقط في أعضاء الجماعات التي توظف الدين وكل رموزه من أجل امتلاك السلطة والقوة والسيطرة على الآخرين، وهذه الجماعات نشأت مع تنظيم الإخوان المسلمين وما تفرع عنه، أو قلده من الجماعات. هذا المستوى من خريطة الدين الإسلامي محدود للغاية من حيث العدد فلا يتجاوز في كل العالم الإسلامي واحداً في المائة من مجموع المسلمين، ولكنهم هم الفئة التي ينبغي أن تتوجه إليها عملية المواجهة الفكرية للتطرف، وذلك من خلال تفكيك الأيديولوجية التي تقوم عليها هذه الجماعات، وهنا يجب أن يتم تفكيك هذه الأيديولوجية من داخل الدين الإسلامي، وليس من خارجه، وأن يتم تفكيكها بحجج من الدين ذاته، وليس بحجج من مذاهب وأفكار أخرى، وأن يتم التعامل مع الأسس الفكرية لهذه الجماعات مثل: مفهوم الخلافة والحكم، مفاهيم السلطة والدولة، مفاهيم الولاء والبراء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومسؤولية المسلم عن إسلام البشر أو عدم إسلامهم، ومسؤوليته عن التزام المسلمين بالدين أو عدم التزامهم.. إلخ.
وعند مواجهة هذا المستوى من خريطة الإسلام والمسلمين لا ينبغي أن ينصرف النقد أو التفكيك لأي من مكونات المستويين السابقين، لأن ذلك سيحقق عكس الهدف، سوف يثبت لأنصار هذا المستوى وأتباعه أنهم على حق، وسوف يأتي لهم بأنصار وأتباع جدد.. وللحديث بقية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة