نفھم من ذلك أنه في ھذا العالم لا یستطیع الواحد منا أن یحتفظ بھویة واحدة خالصة نقیة من الاختلاط في كل مراحل حیاته.
في مقالھا المؤرخ بتاریخ 2 أبریل والمعنون بـ"انعكاسات"، قادتنا الدكتورة شما بنت محمد كعادتھا إلى تخوم معرفیة متنوعة ومختلفة، استفزت فینا الكامن وأشعلت جذوة السؤال عن الغائب، حیث تحدثت عن اختلاف انعكاسات الحیاة وتأثیرھا على ذواتنا وعلى تشكل وعینا وھویتنا الشخصیة.
وفي الحقیقة كان مقالاً ذو أبعاد فلسفیة داعیة للتأمل، استدعى من الذاكرة ما درسناه في مرحلة الدكتوراه لمنظرّي مدرسة فرانكفورت من "ھبرماس" حتى "أدورنو"، والمفكر الفرنسي "میشیل فوكوه" في تحدیه النظري لسلطة المؤسسات التربویة والإصلاحیة وحتى راعي نظریة التفكیك "جاك دریدا". واستوقفني في الحقیقة موضوعه (تشكّل الذات وعلاقة ذلك بموضوع الھویة)، بالإضافة إلى موضوعه سلطة الصوت وحضوره في الفكر الفلسفي الغربي. إن انعكاسات الآخرین على تشكّل وعینا وھویتنا الشخصیة، فكرة تمتد جذورھا إلى مفكّرین وفلاسفة أسست نظریاتھم مدارس فكریة غیرت، وأضافت للخریطة المعرفیة. ولعل أھمھم صاحب كتاب "الاستشراق" المفكر الفلسطیني "إدوارد سعید" الذي أكد أنه لیس ھناك ھویة تؤسس وتؤول ذاتھا بذاتھا ومن ثم تستوي ھویة خالصة. وإن ادّعاء وجود الھویة الخالصة ما ھو إلا میل للعنصریة الثقافیة والعرقیة التي تمیّز عرقًا دون الآخر، والتي في الحقیقة تقف موقفًا متضادّا مع نسبیة القیم والمعاییر الإنسانیة.
في ھذا العالم لا یستطیع الواحد منا أن یحتفظ بھویة واحدة خالصة، نقیة من الاختلاط في كل مراحل حیاته. فمن یختزل الھویة في عرق یقف متحیرا أمام المحیطین به مختلفی الأعراق، ومن یختزلھا في لغة یقف متحیرا كیف سیصف من یتكلم لغات مختلفة
نفھم من ذلك، أنه في ھذا العالم لا یستطیع الواحد منا أن یحتفظ بھویة واحدة خالصة، نقیة من الاختلاط في كل مراحل حیاته. فمن یختزل الھویة في عرق یقف متحیرا أمام المحیطین به مختلفي الأعراق، ومن يختزلھا في لغة يقف متحيرا كیف سیصف من یتكلم لغات مختلفة، ومن منا الیوم لا یتكلم لغتین أو أكثر؟ إضافة إلى ذلك، ھناك سؤال مهم حول هذا الموضوع یطرح نفسه، وھو ھل التجلیات الأخرى للھویة كانت عرقًا أو ثقافة أو لغة.. ما ھي إلا وھم؟ حتما لا، فالھویة متعددة ومتنوعة ولھا القدرة على التجدد والاغتناء من خلال الاحتكاك بالآخر، ومن خلال التبادل الثقافي الیومي الذي يتم سواء من خلال التواصل الشخصي أو من خلال تواصلنا الیومي المكثف في العوالم الافتراضیة مترامیة الأطراف، ھذا الفھم یقودنا إلى فكرة الھویة السردیة التى طرحھا الفیلسوف الفرنسي بول ریكوار في كتابه "الذات عینھا كآخر" للمترجم الدكتور جورج زيناتي، حیث میز ریكوار بین نوعین من الھویة: "الھویة الذاتیة الثابتة" والتي تتمیز بالثبات والمحافظة على كینونتھا رغم تغیر الزمن مثل اسم الإنسان وانتمائه الاجتماعي الأسري وبطاقته التعریفیة بكل ما تحتویه، والھویة السردیة، أو كما تسمى أیضا الھویة العینیة، ھي القصة التي تروى عن حیاة الإنسان مع إدخال العناصر الخیالیة المختلفة. وبناء علیه تظل ھویة كل منا في حالة دیالكتیكیة بین الذاتي والسردي أو العیني الذي یتمیز بقدرته على التواصل والكلام مع الآخر والتأثیر والتأثر به. بمعنى آخر، ھي الذات الفاعلة والأخلاقیة التي تسرد قصة حیاتھا وتكون في حوار مفتوح متبادل مع الآخر بشكل یتجاوز أي نزعات إقصائیة أو تعصبیة قد تقود للعنف والإقصاء. فالذات لا تعیش وحدھا بل أنھا تكتشف وتكشف ذاتھا بین آخرین سواء كان ھؤلاء الآخرین قرباء متعاطفین أو بعیدین یشتركون معنا في قیم إنسانیة علیا وتحكم علاقتنا بھم العدالة والاحترام، یؤلف السرد كما یقول ریكوار، الخواص الدائمة للشخصیة حیث إنه ھو البعد الدینامیكي المتحرك الموجود في الحبكة التي تخلق الھویة الشخصیة. وھذا معناه أن الإنسان لیس كائنا مختلفا عن تجاربه بل التجربة والاحتكاك ھما ما یصوغان ھویاتنا.
بمعنى آخر ميز ريكوار، كما يقول سعيد بنكراد، بين واجهتين للهوية: الهوية الأنية والهوية المماثلة، وهما كيانان من طبيعتين مختلفتين ولكنهما يعودان إلى ذات واحدة، الأولى ثابتة عبر الزمن، فالواحد منا هو ذاته من خلال اسمه وانتمائه حتى يموت. أما الثانية المماثلة فإنها تحيل على كل الأدوار التي قام بها المرء عبر مسيرة حياته منذ أن كان طفلا حتى أصبح تلميذا أو موظفا أو رئيسا أو ساعي بريد أو شخص مهمش ليس له تاريخ شخصي. الأولى أذن دائمة في الزمن وغير متغيرة في حين أن الثانية متحولة ومتطورة عبر الزمن. من هنا نفهم أن مفھوم الھویة ليس ولا يجب أن يكون أسيرا في كھف الھویة الشخصیة العرقية أو الثقافية الضیقة، بل إنه منفتح في مجال الغیریة المشرعة أبوابها على كل الاحتمالات.
نحن إذن غير مفصولين أو معزولين عن العالم الإنساني والثقافي المحيط بنا بل إننا نتشكل ونكتسب كثيرا من سماتنا منه ومن خلال احتكاكنا بهذه العوالم التي أصبحت في زمن العولمة بدون حدود أو فواصل.
أما فيما يتعلق بسلطة الصوت في الفكر الغربي فهذا سيكون موضوع مقالتنا القادمة. وللحديث صلة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة