النموذج الأخطر في القتل على الهوية هو النموذج الطائفي أو المذهبي
ماذا يدور في عقل إنسان يقتل إنساناً آخر دون سابق معرفة دون أن يضرّه أو يؤذيه، دون أن يسبّه أو يهينه، دون أن تكون بينهما سابق معرفة؟ هل فكر القاتل أن هذا المقتول له أسرة وأطفال سوف يحزنون يعانون ويضيع مستقبلهم بدونه؟.
هل فكر القاتل أن القتيل كانت له أحلام مثله وأمنيات مثله؟ وكان يود أن يتمتع بالحياة مثله؟ لماذا أقدم القاتل على القتل العبثي لإنسان آخر فقط بسبب أنه ينتمي إلى جماعة دينية أو طائفية أو مذهبية معينة؟ هل مجرد الاختلاف الديني أو الطائفي أو المذهبي مبرر للقتل؟ ومن أين جاء هذا التبرير؟ من المؤكد أنه جاء من عقيدة القاتل.
من المؤكد أن القاتل مقتنع أن قيامه بالقتل سوف يجعله أقرب للإله الذي يعبده، وأنه سينال ثواباً على إرضاء ذلك الإله، وأنه سيكون الأكثر تديناً والتزاماً بدينه.
بدون إحداث تغيير ثقافي حقيقي سوف تتمدد هذه العقلية من الطوائف والمذاهب إلى المؤسسات والجماعات والفئات؛ حتى يصير القتل على الهوية مُبرراً، ولعل دهس الأبرياء في الشوارع أو قتل المتعبدين في الكنائس هو انعكاس لهذه المنظومة الفكرية الفاسدة المفسدة.
هذا النوع من القتل تعارفت المجتمعات تسميته بالقتل على الهوية، وهو ظاهرة منتشرة في جميع الأديان، والمذاهب العقائدية البشرية، ويهمنا في هذا المقال أن نركز على هذه الظاهرة عند المسلمين المعاصرين، وذلك في سياق التفكيك الذي نقوم به للأصول الفكرية لخطاب التطرف والعنف والإرهاب، وهنا نجد أن القتل على الهوية في جميع ظواهره وعند جميع الأطراف يقوم على قاعدتين أساسيتين هما:
أولا: توارث الخطيئة، أو توارث المعصية والذنب، وهي فكرة خطيرة موجودة في أديان وعقائد كثيرة في الكون، وتقوم على أن الأولاد يتوارثون معاصي وأخطاء والديهم، وهكذا جيل بعد جيل، حتى وإن تباعدت الأجيال قروناً عديدة، أو آلاف السنين، لأنها مسألة جينات، تحملها الأجيال، هذه الجينات حملت ذنباً أو خطيئةً معينة، ولذلك فالأجيال اللاحقة مسؤولة عن جرائم وأخطاء الأجيال السابقة، وعليها أن تدفع الثمن على ما اقترفه أباؤهم وأجدادهم، ومن ثم يجوز قتلهم بسبب هويتهم، وانتمائهم إلى جماعة معينة.
ثانيا: فكرة شيوعية الخطيئة أو المعصية والذنب، وتشاركيته بين أعضاء دين معين أو المنتسبين إلى طائفة أو مذهب معين، وهذا التشارك يجعل كل ذنب أو جريمة يقوم بها أحدهم مسؤولية الجميع، ويجب أن يدفع ثمنها الجميع، ولذلك فإن أخذ الحق من هذه الطائفة أو المذهب يتم من خلال قتل أي واحد منها دون تمييز، لأن الجميع سوف يحزنون عليه، وبذلك يكون القاتل قد حقق المطلوب، وأراح نفسه، وأرضى الإله الذي يعبده، أو الرمز الديني الذي يقع في منزلة القداسة عنده.
هاتان القاعدتان تجتمعان دائماً معاً حتى أصبحتا حالة نفسية وعقلية واحدة، وصار القتل على الهوية في جميع الأحوال يعبّر عن هاتين القاعدتين في ذات الوقت، ويبدو هذا واضحاً -بصورة يدركها الإنسان العادي في المجتمعات العربية - في عادة الثأر، إذ يتم أخذ الثأر من خلال قتل أفضل شخص في عائلة الخصم لإلحاق أعظم ضرر بهم، وقد يكون الشخص الذي قُتل للثأر لا علاقة له بمن كان السبب في الثأر، وقد يكون من الرافضين لأفعاله التي أدت إلى هذه الحالة.
والنموذج الأخطر في القتل على الهوية هو النموذج الطائفي أو المذهبي، الذي يعامل كل أبناء طائفة أو مذهب معين على أنهم مسؤولون عن جرائم حدثت في التاريخ منذ مئات السنين، قد يكون أجداد أجدادهم لم يكونوا منتمين لطائفتهم أو مذهبهم في ذلك الزمان، ولكن فكرة توارث الخطيئة أو الجريمة أو المعصية تدفع من يؤمن بها إلى القتل على الهوية.
وتأسياً على ذلك فإن الصراع والعنف الطائفي والمذهبي في اليمن والعراق وسوريا وباكستان وأفغانستان ينطلق من هذه القناعات بتوارث الخطيئة أو المعصية، لأنه لو فكر من يقتل على الهوية بصورة عقلانية ومنطقية قد يجد أن أجداد من يقتله بسبب انتمائه الطائفي أو المذهبي في ذلك الزمان؛ لم يكونوا ينتمون الى طائفته الحالية، بل قد يكونون غير مسلمين، ولو فكر الشيعة والسنة في عصرنا الحالي قليلاً لوجدوا أن من يظنونهم أعداء كانوا خارج معسكرات العداوة التي قسمت المسلمين إلى طائفتين في ذلك الزمان، ومن ثم فإن العقل والمنطق ينفيان تحقق هذه الأسطورة التي تبرر القتل على الهوية.
وللنظر في هذه الأسطورة الكارثية التي أصيب بها العقل المسلم في عصرنا الحاضر؛ وهي فكرة توارث الخطيئة والمعصية والذنب أو تشاركها، نجد أنها تنافي بل تسير عكس كل ما جاء به الإسلام، فالقرآن الكريم يؤكد في جميع مواضعه على المسؤولية الفردية، وأن كل نفس بما كسبت رهينة، وأنه لا تحمل نفس ذنوب نفس أخرى، وأن يوم القيامة لا يحمل الإنسان ذنب أمه وأبيه أو ابنته وابنه أو زوجته وأخيه، وأن كل إنسان مسؤول مسؤولية كاملة عن أفعاله، وأن الذنوب لا تورث، والمعاصي لا تورث، وأن الصحابة الكبار مات أباء بعضهم على غير دين الإسلام رغم معاصرتهم للدعوة المحمدية، وأنه ليس للإنسان إلا ما سعى.
فمن أين جاءت هذه العقيدة الفاسدة في توارث الخطيئة أو المعصية أو الذنب؟، سؤال يحتاج إلى دراسات عميقة، ويتطلب من المؤسسات الدينية، أن تنهض لتقديم إجابات علمية مقنعة عليه، لأن الواقع المعيش في كثير من الدول العربية والإسلامية يشهد العكس، حيث يتم قتل رجال الشرطة والجيش فقط لانهم ينتمون لهذه المؤسسة، ولأن بعض الجماعات خلقت حالة عداء مع الشرطة أو الجيش لذلك يصبح من حقها قتل أي من أعضائها، وهم بالملايين أخذاً بالثأر من مؤسسة منعت هذه الجماعة أو تلك من تحقيق أحلامها العبثية، وأهدافها الإجرامية، أو قتلت بعض أعضائها في مواجهات بينهما، هذه الحالة من القتل العبثي قناعة بتشاركية الخطيئة، وأنه في حالة العداء مع طائفة أو مذهب أو مؤسسة يحق لمن يعاديهم أن يقتل أياً من أعضائها، هذه الحالة لابد أن يتم وضع نهاية لها بنشر ثقافة صحيحة تعتمد صحيح الدين، وتزيل هذه المسلمات الفاسدة من عقول الشباب الذين خلطوا بين الدين الإسلامي وغيره من العقائد والأديان، وخلطوا بينه وبين العادات المتوارثة من الثقافات القديمة، وبدون إحداث تغيير ثقافي حقيقي سوف تتمدد هذه العقلية من الطوائف والمذاهب إلى المؤسسات والجماعات والفئات حتى يصير القتل على الهوية مُبرراً، ولعل دهس الأبرياء في الشوارع أو قتل المتعبدين في الكنائس هو انعكاس لهذه المنظومة الفكرية الفاسدة المفسدة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة