من بين أهم الكتب التي صدرت في مصر هذا العام يأتي كتاب "يهود مصر في القرن العشرين" للدكتور محمد أبو الغار.
والدكتور "أبو الغار" هو أول من أدخل علم الأجنَّة وتكنولوجيا أطفال الأنابيب في مصر، وهو في الوقت ذاته كاتب ومثقف له العديد من الكتب في مجال الثقافة والفن والتاريخ.
حين اندلعت حرب فلسطين عام 1948 كانت سِنُّ المؤلف نحو ثماني سنوات، وحين جرت وقائع العدوان الثلاثي على مصر كان قد بلغ أعتاب الشباب، ومع رحيل اليهود عن مصر بدأت التساؤلات تدور في ذهنه -كما يعترف في بداية كتابه-.
جزء كبير من التصدي لكتابة تاريخ اليهود المصريين، وغالبا اليهود العرب، يرجع إلى وهج القضية الفلسطينية وأهميتها وإنشاء دولة إسرائيل.
في كتابه الموسوعي يبيّن "أبو الغار" حقيقة غاية في الأهمية، وهي أن المصريين والعرب لم يعرفوا أبدا العداء للسامية، مما عاناه يهود أوروبا وانتهى بهم إلى أفران الغاز وهولوكست هتلر.
لقد رحب الآباء والأجداد العرب باليهود الهاربين من العداء للسامية، فسكنوا وعملوا بين ظهرانينا بكل حرية، وكانوا جزءا مهما من المجتمع المصري، حتى حدثت التغيرات السياسية التي أدت إلى هجرة اليهود من مصر.
توضح صفحات الكتاب أن اليهود المصريين ليسوا طائفة واحدة، ولا مجموعة متجانسة، وإنما هم مجموعة من البشر، بعضهم عاش في مصر منذ زمن سحيق، والبعض الثاني هاجر إليها في القرن الخامس عشر هربا من الاضطهاد في إسبانيا، والبعض الثالث هاجر إليها في القرن الثامن عشر أو التاسع عشر وأوائل القرن العشرين من حوض البحر الأبيض المتوسط، ومن أوروبا الشرقية، ليكون بمنجى من الاضطهاد وسعيا وراء الرزق.
كان معظم اليهود المصريين من الربّانيين والأقلية كانت من القرّائين، وكانت الفوراق الاجتماعية كبيرة جدا بين كبار الأغنياء من مُلاك المصانع والمتاجر الكبرى والأراضي، وبين يهود يأكلون لقمة العيش بالكاد، ولم يجمع بينهم غير الديانة اليهودية.
هؤلاء اليهود المصريون كانوا يتكلمون لغاتٍ عدة، فالمصريون الأصليون كانوا يتكلمون العربية فقط، والمهاجرون القدامى كانوا يتكلمون العربية والفرنسية، والمهاجرون من أوروبا الشرقية كانوا يتكلمون "اليديشية"، وبعضهم كان يتكلم أكثر من لغة، ولم تكن العبرية بين اللغات التي يعرفها اليهود المصريون، وقبل مغادرة مصر كانت اللغة التي تجمع اليهود والمصريين هي الفرنسية.
ومما لا شك فيه وأجمعت عليه جميع المصادر، أن مصر استقبلت اليهود الهاربين والنازحين من كل مكان بصدر رحْب، ورعتهم وساعدتهم، وأصبح لهم وضع متميز في المجتمع المصري.
يطرح المؤلف تساؤلا مهما ومثيرا عبر صفحات كتابه العُمدة هذا: هل إنشاء دولة إسرائيل هو السبب الأساسي في خروج اليهود من مصر؟
يجيب الدكتور "أبو الغار" بقوله:
"أعتقد أن هذا بالطبع سبب مهم، لكنه ليس السبب الرئيسي، فقد قامت إسرائيل عام 1948، وكانت بوادر قيامها واضحة للجميع قبل ذلك بسنوات عدة، ومع ذلك هاجر إلى الخارج عشرون في المائة فقط من اليهود المصريين خلال السنوات العشر منذ عام 1946 حتى عام 1956، وذهب أقل من نصفهم إلى إسرائيل، وعاشت الغالبية العظمى من اليهود ثماني سنوات كاملة بعد إعلان دولة إسرائيل حتى عام 1956، حين خرج معظمهم بعد العدوان العسكري الإنجليزي الفرنسي -والذي اشتركت فيه إسرائيل- على مصر.
هنا يطفو على السطح تساؤل مثير آخر: لماذا خرج اليهود بعد 1956 ولم يخرجوا بعد 1948؟
الإجابة عند المؤلف، وكما يقول "سهلة"، ذلك أنه خلال الفترة منذ عام 1949، بدأ تطبيق قانون إلغاء الامتيازات الأجنبية، وكذلك أعطى قانون العمل الجديد حقوقا وأفضلية للمصريين، حيث إن اليهود المصريين كان معظمهم يحمل جنسية أجنبية، أو دون أي جنسية، وأصبح اليهود في الظروف الجديدة في وضع غير مميز، ومن لم يحمل الجنسية المصرية وجد صعوبة في الحصول على وظيفة، وتأثر بذلك عدد من محدودي ومتوسطي الدخل.
لكن ماذا عن كبار أغنياء اليهود في مصر وجُلّهم من الرأسماليين؟
من الواضح أن هؤلاء شاهدوا بأعينهم رياحا جديدة تهب في محاولة للحد من سلطة رأس المال الخاص وتوسيع ملكية الدولة وسلطتها، ولم يكن هذا الأمر موجها ضد اليهود، بل كان ضد كل الرأسماليين الأجانب والمصريين، بغض النظر عن ديانتهم.
في هذه الظروف، بدأت الطائفة اليهودية، فقراؤها وأغنياؤها، تفكر في الهجرة، لكنهم لم يتخذوا هذا القرار الصعب لأنه كان لديهم أمل في أن يحدث شيء ما في نظام الحكم المصري، وفي هذه الحالة تعود الأمور كما كانت بالنسبة إليهم.
السؤال الأخير الذي يطرحه المؤلف يستحق الوقوف أمامه طويلا: لو لم تكن هناك دولة إسرائيل ولا النزاع العربي الإسرائيلي، فكيف كان سيصبح مستقبل اليهود المصريين وغيرهم؟
في تقدير الدكتور "أبو الغار" أن هجرة اليهود المصريين إلى أوروبا كانت ستحدث في كل الأحوال، ذلك أن معظمهم حضروا إلى مصر سعيا وراء الرزق والمستوى الأعلى للمعيشة، وهو ما أعطته مصر بسخاء، لكن بعد الحرب العالمية الثانية وتنفيذ مشروع "مارشال" في أوروبا تغيرت الموازين لصالح أوضاع أوروبا الاقتصادية، ومن هنا كانت حتمية هجرة يهود مصر إلى الخارج.
الكتاب قصة تاريخية رائعة مليئة بالوقائع والأحداث التي تستحق القراءة بعناية وتدقيق.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة