من أخطر ما تواجهه المجتمعات المسلمة في اللحظة الراهنة هو اختطاف دينها، من قبل حفنة من المارقين على كل الأعراف والنواميس الدينية والأخلاقية
ربما من أخطر ما تواجهه المجتمعات المسلمة في اللحظة الراهنة هو اختطاف دينها؛ من قبل حفنة من المارقين على كل الأعراف والنواميس الدينية والأخلاقية والإنسانية، جماعة من الإرهابيين والمؤدلجين، لا تؤمن بقيم الأديان ولا تعرف حرمة الأوطان أو الإنسان، دينها العنف والكراهية، وإيمانها الدماء والأشلاء، ومصادرها العبث والعدم، وشعارها الشيطان، وشهوتها المصالح, ولو على كومة من الخراب، وإلا الفناء للعالمين.
محنة اختطاف الدين تتمظهر بالكتاب والسنة، وتتدثر بالفضيلة، وتتسربل بالورع والتقوى؛ لتخفي أجندات إقليمية شيطانية، وطموحات وهمية، فتبدأ رحلة من التلفيق والتضليل، قائمة على تصدير مشهد الدماء والقتل ومنظر التخريب والتدمير وتشريع فتاوى إجرامية خارجة عن النسق الديني والإنساني وفي المقابل نجد المتلكئين والمتقاعسين من بعض الشرعيين المنتسبين إلى المجال الديني، حيث يتغاضى بعضهم عن الرد على فجور المتطرفين، والبعض الآخر يرفض المشاركة في أي مشروع يتصدى للإرهابيين، والأنكى من ذلك كله، نجد أن بعض هؤلاء يصنفون ما ذهبت إليه الجماعات الإجرامية والإرهابية بأنه اجتهاد خاطئ، وفي الوقت عينه تجدهم يطلقون عنان التكفير والفسق، وصنوف السباب والشتائم؛ لكل فكر معاصر، يقدم نظريات واقعية في فهم الخطاب الشرعي أو تجديد الخطاب الإسلامي.
ولا يتردد بعض هؤلاء في رد الخطاب الإرهابي إلى "الصناعة الغربية المقيتة" التي تريد في زعمهم ومكمن اعتقادهم أن تشوه صورة الدين الإسلامي، ومن هؤلاء المتقاعسين من هو في دائرة الحيرة والتردد؛ كأكثرية من تردد بإدانة إجرام ووحشية الإرهابي أسامة بن لادن في تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر، فالتزموا الصمت، كأن شيئا لم يحدث، فلا استنكار ولا تبرأ من الإثم والعدوان.
إن صناعة رؤية دينية جديدة، تتميز بالاعتدال وسماحة روح الإسلام الأصيل، والقيام بتجديد الخطاب الديني، باتت من الأمور الملحة والمستعجلة؛ لتجاوز محنة اختطاف الإسلام واستعادة الدين الحنيف؛ بكل أبعاده الجمالية وقيمه الأخلاقية النبيلة التي تضفي على الإنسانية شكلا رائعا.
وهكذا بات الإسلام مختطفا؛ بكل معانيه الراقية وقيمه الإنسانية الجميلة، وكأنه دين مستحدث، رغم أنه ضارب في أعماق التاريخ والوعي الإنساني.
إن رواية الإسلام وسيرة رسوله - عليه الصلاة والسلام - قائمة منذ أكثر من أربعة عشر عقدا ونيف، ولا تزال تُعلي من شأن الإنسان وتكرمه أيا كانت ديانته أو جنسه أو عرقه، وتحيي قيم التعايش والرحمة والاعتدال. فالدين الذي يدعو إلى القتل والتدمير، هو قطعا ليس إسلام سيدنا محمد بن عبدالله رسول الرحمة، وإنما هو إسلام الإخوان الإرهابيين والقاعدة وداعش وغيرهم من المتطرفين، الذين لا دين لهم ولا إنسانية وفقدوا كل خصال الإنسان وقيمه وأخلاقه وفطرته. ذلك لأن الدين الذي يدعو للقتل والسحل والتنكيل بالإنسان، لا يساوي عند الله شيئا، فهو جنون وعبث وإرهاب مصيره مهملات الحاضر ونفايات التاريخ.
ما يساهم في اختطاف الدين، تغليب العاطفة في تلقي الدين، بعيداً عن مواطن فهم النص بالعقل والحكمة، وتحويل التدين إلى طقوس وعادات ومظاهر، حيث أصبح بعض طلاب العلم دليلهم لطلب العلم عند المشايخ، هو المظهر والشكل، وليس الفهم والعلم، وأصبحت المشيخة الدينية عند بعضهم شكلا؛ دون فقه وعمق استدلالي، فكم من عاطفة دينية جرت إلى سفك الدماء وهدم البنيان، وكم من عاطفة شوهت مفهوم الدين واختطفت حقيقته وحرفته، باسم الصحوة.. مواعظ كاذبة، وشعارات براقة، وتدين زائف، وأفكار مغلوطة، شعار إيقاظ الأمة الإسلامية من غفلتها!! وما هذا الشعار الكاذب إلا حرب منكرة على المجتمعات والأوطان؛ بعد وسمها بالجاهلية، فتنقم عليها وتخرجها من منطق السكينة والاستقرار إلى منطق العنف والتدمير باسم الدين. والإسلام أعلنها منذ أن جاء به محمد رسول الله أنه دين المحبة والرحمة وأن حب الأوطان من الإيمان.
ومن غريب اختطاف الدين، تقرير أن الأرض ومن عليها حكرا على المسلم دون غيره فقسموا الدار إلى دار إسلام ودار حرب، فمن لم يكن على دين الإسلام، فلا مكان له في هذه الأرض، وفقا لتصورهم؛ حتى غدت بعض منابرهم، وبالأخص منابر الجمعة، متخصصة بالدعوة عليهم وعلى أبنائهم بالمحق والسحق، وتجميد الدم في عروقهم، وزلزلة الأرض تحت أقدامهم.. ونسوا أن إسلامنا كفل لهم البر "أن تبروهم"، وهي كلمة ذات درجات عالية، لذا كان أكثر استخدامها مع الوالدين.. فأي إسلام يريدون؟!
ولعل من أهم أسباب اختطاف الدين، تعثر التعليم الديني الذي لا يزال يعاني من تبعات الجمود الفكري، والقراءة السطحية للنصوص، والفقر المعرفي في الانفتاح على العلوم الإنسانية؛ بكل صنوفها وأنواعها. كذلك يعاني التعليم الديني من تراجع ملموس وانحدار ملحوظ في صياغة منهجية علمية رصينة، تتعامل مع النصوص الدينية الأصلية وقراءاتها، وفقا لمتغيرات الزمان وواقع المجتمعات المعاصرة، ونزع القداسة عن التراث الإسلامي، لا سيما اجتهادات العلماء والفقهاء، باعتباره موروثا بشريا، تجدر قراءته وفق سياقه وواقعه ومناطه.
إلى ذلك، هناك محاولات ساذجة، تعمل على تأصيل فكرة "أسلمة المعرفة" في مساقاتها ومحاورها وتوصيفها؛ بحيث تبدو لطالب العلوم الشرعية؛ في رؤيته للعالم، كأنها المنهج القويم للتعامل مع تصاريف الحياة، فيمضي باعتقاده إلى القطعيات التي لا تمت للمعرفة بصلة، وينتهي إلى تبني شعارات فاسدة ونظريات واهية؛ كشعار "الإسلام هو الحل" الذي ترفعه جماعة الإخوان الإرهابية، إنّما يبغون من وراء ذلك غايات فاسدة، ومقاصد خبيثة، فيسعون إلى ترويج ثنائية الحق والباطل، والإيمان والكفر، والهداية والضلال، ورواية الإله والطاغوت، ومعاندة الشّرع ومضاهاة الشّارع، وتلبيس الحقّ بالباطل، والزّيادة في الدّين، والخروج على مقتضى وضع الشّريعة التي جاءت للعموم، وإحداث ما لم يكن عند الأوّلين.
لذلك، نظن أن التعليم الديني المعاصر يحتاج أن يضيف بجانب الفقه وأصوله، مادة جديدة، تقوم على تفكيك بنية الخطاب المتطرف، القائم على تحريف المفاهيم، مثل: الجهاد والحاكمية والولاء والبراء والحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والتكفير، وقراءة تلك المفاهيم في سياق الدولة الوطنية والحكومة والدستور والقوانين المحلية والدولية، لا في سياق الإمبراطوريات الغابرة والخلافة المزعومة. كذلك يفترض أن تسعى هذه المادة إلى بيان معنى أرض الوطن، التي يعدها المتطرفون بقعة لا قيمة لها، من انتمى إليها كان مع أبي لهب وأبي جهل، فتقوم هذه المادة؛ بما تحويه من عمق دلالي وفقه واقعي؛ بجلاء الحقيقة وإيضاح معنى الدولة الوطنية، وبيان شرعيتها في الإسلام، وتعزيز دورها، كما توضح برأي معتدل الجدلية القائمة بين الدولة والدين، والعقل والدين. وتقوم المادة أيضا، بجرأة واضحة ومن دون تردد أو حياء أو إيماء أو تلميح، بكشف وبيان زيف دعاوى الإرهاب والعنف والخراب الذي تسلكه جماعة الإخوان الإرهابية وداعش والقاعدة وغيرها من تيارات الفساد والإفساد في الأرض.
إن صناعة رؤية دينية جديدة، تتميز بالاعتدال وسماحة روح الإسلام الأصيل، والقيام بتجديد الخطاب الديني، باتت من الأمور الملحة والمستعجلة، لتجاوز محنة اختطاف الإسلام واستعادة الدين الحنيف، بكل أبعاده الجمالية وقيمه الأخلاقية النبيلة التي تضفي على الإنسانية شكلا رائعا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة